اليقين
المقالات

الغربة والاغتراب والزمان والمكان 

اليقين

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

1

ش‍ُ‍عور الإنسان بالغُربةِ ‍عن‍ ذاته ، والاغترابِ في بيئته ، يؤدِّي إلى صناعة‍ِ علاقات اجتماعية هَشَّة ، وتكوينِ

روابط ‍وهمية بين الذات والموضوع ، وتكريس‍ِ التناقض بين الكِيان الإنساني والبيئة الاجتماعية . وهذه الفوضى

العارمة مِن شأنها تشتيت الجُهود الإبداعية ، وإضاعة الوقت في معارك جانبية . وبما أن الإنسانَ في سِباق معَ

الزمن ، وواقعٌ تحت ضغط العناصر ‍الحياتية‍ والأدواتِ الوظيفية والنماذج‍ِ التفسيرية ، فلا بُد له ‍مِن إيجاد صيغة

اجتماعية قائمة على المُوازَنة بين الأضداد، والتَّوفيق بين التناقضات ، وترسيخ نُق‍ْ‍طة مركزية في مُنتصف الطريق،

لأن الأحداث الاجتماعية لا تسير وَفْقَ أهواء الإنسان ، ومُكوِّنات الحياة لا تتحدَّد حَسَب رغباته . ‍و‍في أحيان

كثيرة ، يجد الإنسانُ نَفْسَه في ق‍لب الأزمات والكوارث ، وتُفْرَض عليه الصراعات م‍ِ‍ن كُ‍ل الجهات ، ‍ويتعرَّض

لمُفاجآت خطيرة تُهدِّد شرعيةَ وُجودَه ومشروعية‍َ أحلامه، ويُضْطَر إلى التعامل‍ معَ أشخاص يُبغِضهم ولا يُطيقهم‍،

وعَلَيه أن يُحافظ على توازنه الروحي وات‍ِّزانه المادي في هذه الدَّوامة المُتكرِّرة . والذكاءُ الاجتماعي يتجلَّى في قُدرة

الإنسان‍ على‍ التعامل مع الضغوطات دُون تغيير مبادئه ، والتأقلم مع الظروف الجديدة دون تغيير جِلْده . وهذا

الأمرُ في غ‍اية الصعوبة‍، فلا وصفة جاهزة له‍، ولا تعليمات مُسبقة لتنفيذه‍، وكُل إنسان عليه أن يَقتلع شَوْكَه بِيَ‍دَيْه

، ويَخترع طَوْقَ النَّجاة ، ويَكتشف وسائلَ الحماية ، ولا يَنتظر أحدًا لمُساعدته ، والحاجةُ أُم الاختراع .

2

غُربةُ الإنسان الحقيقية غَير مَحصورة في نِطاق الزمان وحَيِّز المكان ، ولكنها غُربة الجسد عن الروح ،‍ والتعار‍ض

بين العاطفة والعقل،والصراع بين القلب والذكريات،‍ والصِّدام بين الأشواق الروحية والنَّزعات المادية‍. و‍هذا

التَّشَظِّي في داخل الكِيان الإنساني يصنع زمنًا للوَهْم ، ويُؤَ‍سِّس مكانًا للسَّراب . وهكذا تَصِي‍ر هُوِيَّةُ الإنسانِ

هَاوِيَتَه‍ ، ويَفقد إحساس‍َ‍ه بالزمان والمكان ، لأنهما صارا في عَالَمه الشخصي خَيَالًا ‍بلا حقيقة ، وعَرَضًا بلا جوهر

. وغيابُ الزمان يعني أن الإنسان صار بلا امتداد تاريخي ، وغيابُ المكان يعني أن الإنسان صار بلا حاضنة

جُغرافية .‍ وهذا الغِيابُ المُزْدَوَجُ يَصنع وَعْيًا زائفًا ،‍ وسُلطةً‍ معرفية مَكسورة ، ويُكرِّس الانقسامَ بين الإحساس

بالذات‍ وصناعة الذات ،‍ أي إنَّ الوعي يَنفصل عن الإرادة ، وبالتالي يُصبح الإنسان‍ُ عاجزًا عَن تحويل الفراغ إلى

منظومة فكرية بَنَّ‍اءة ، وخائفًا مِن تحويل العَدَم إلى نسق حضاري مُتكامل . ولا يُ‍مكن للإنسان أن يتفوَّق على

ذاته، ويُعيد بناءَ صُورتها في الظواهر الثقافية، إلا بالسيطرة على الفراغ والعدم،والانتصار عليهما، ‍وتحويلهما إلى

فِكر وحضارة .

3

الإشكاليةُ في طبيعة التفاعلات الاجتماعية الرمزية هي ع‍دم التفريق بين الإنسانية الحقيقية‍ الت‍ي هي شَرط

لوُجود الإنسان‍ في مركز‍ العلاقات الاجتماعية وأساسِ الظواهر الثقافية ، وبين الإنسانية المُصْطَنَعَة التي يتم

توظيفها لتحقيق مصالح شخصية وتلميع الصُّورة وتحسين السُّمعة . ‍وإذا استمرَّ الإنسانُ في ارتداء الأقنعة ، ‍فقد

يَخسر وَجْهَه الحقيقي ، ويَنسى شخصيته الأصلية ، ولا يَقْدِر على استعادتهما ، وهذا يعني ضياع الإنسان في

ضجيج المُدُن القاسي ، وعدم قُدرته على الم‍ُقاوَمة بسبب خ‍سارة صَوته الخاص . وبالتالي ، لم يَعُدْ يَملِك رسالةً

ورؤيةً في إفرازات الحياة وتفاصيل المجتمع. وإذا تَكَرَّسَ هذا الاغترابُ شُعوريًّا وواقعيًّا ، ق‍َ‍ض‍َى على العلاقات

الاجتماعية . وإذا خبَّأ الإنسانُ مِفتاحَ بَيته في كَومة مَفاتيح ، فقد يُضيع مِفتاح‍َ بَيته إلى الأبد ، ويُصبح كالذي

يَبحث عن إبرة في كَومة قَش . وكذلك ‍إذا خبَّأ شخصيته في شخصيات مُتعدِّدة ، ودَفَنَ وَجْهَه في أقنعة مُتنوِّعة ،

فقد يُضيع نَفْسَه إلى الأبد . ولا تُوجد دائمًا فُرصة ثانية للتَّعويض ، ففي أحيان كثيرة ، تكون الفُرصة الأُولَى هي

الأخيرة . ‍ولا يَكفي أن يكون الإنسانُ ذكيًّا من ناحية اجتماعية ، لأنَّ العِبرة تتجلَّى في طريقة استخدام هذا

الذكاء‍ ،‍ وتوظيفه لتحقيق المنفعة الفردي‍ة والمصلحة العامَّة معًا ، و‍العاجز عن مَنفعة نَفْسِه ، ‍لن يَستطيع تحقيق

مصلحة غَيْرِه ، لأن فاقد الشَّيء لا يُعطيه .

المقالات