اليقين
التقارير

متى ولد النبي؟ احتفائية تعبئة طائفية في قفص تمييع الدين و”خمْيَنة” الهوية الوطنية

اليقين

تراءت لليمنيين بشاعة الاستغلال الحوثي للمناسبات الدينية بمسميات عدة، ليست ذكرى المولد النبوي إلا واحدة منها، تميزت بالطول النسبي لفترتها وحجم المزايدة فيها.

للوهلة الأولى، تبدو احتفائيات الحوثيين الدينية وسيلة للوصول "الروحي" إلى جيوب الناس، ومهرجان تعبئة عامة لتعويض الانحدار السريع لشعبية الجماعة في المناطق التي تشكل حاضنة شعبية، إلى مستويات تضع مستقبلها السياسي، وعلى المدى الطويل الفكري والإيديولوجي في حالة بالغة من الخطورة.

في حقيقة الأمر المسألة أعمق، وتتعلق بقضية الاختراق لهوية اليمنيين والعبور بها إلى خارج الحدود الوطنية باتجاه إيران الخميني.

المال والتعبئة

على مدى يزيد على الشهر بدأ الحوثيون استعداداتهم المبكرة لاحتفالية المولد النبوي بتشكيل لجان مركزية ومحلية بمهام مختلفة، وفي الصدد وظّفت أجهزة الدولة الإدارية والإعلامية والمالية في الانخراط في فعالية دينية كان يمنيون يحيونها في المساجد والمجالس الخاصة، وأحياناً بتغطية إعلامية رسمية لفعالية رئيسية في الجامع الكبير بصنعاء، دون تحميل الناس أي التزامات إجبارية، ودون تلوين المولد بأي مسحات طائفية.

بادر الحوثيون بإحياء الذكرى في مؤسسات الدولة، وبالضرورة وفقاً لميزانيات ونفقات مالية زادت في جامعة صنعاء وحدها على 12 مليون ريال، بحسب وثائق.

ويعتزم الحوثيون إقامة فعالية مركزية في صنعاء وعلى مستوى مركز كل محافظة واقعة تحت سيطرة سلطتهم، بميزانيات كبيرة وفرتها من فرض جبايات إجبارية على كل النشاطات الاقتصادية من شركات خاصة ومؤسسات حكومية، ومحال تجارية، كبيرة وصغيرة، وحتى على باعة الأرصفة، ووصلت إلى الفلاحين في الأرياف.

شملت تلك الجبايات مبالغ نقدية ومساهمات عينية، ولغير المستجيبين الحجز وإغلاق محلاتهم بذرائع المخالفات القانونية، كما حدث مع قطاع الصيدلة.

مصدر قال إن الميزانية الأولية لبعض بنود الاحتفائية وصلت إلى 11 مليار ريال، منها 5 مليارات للطلاء واللافتات، و 3 مليارات تكاليف نقل وإشراف، ومثلها مخصصة لقيادات حوثية تحت بند متابعة.

أحد مسؤولي مكتب تنفيذي قال إنه بعد انتهاء احتفائية العام الماضي أعاد تجميع إسهامات المكتب من أقمشة وأدوات زينة، واحتفظ بها لهذا العام للتخفيف على ميزانية المكتب التشغيلية، الضئيلة، وقام بتسليمها للجنة المعنية فأخذتها دون تخفيض البند المالي المخصص لها.

كانت الجباية جانباً من الحملة الحوثية بحجة "المولد النبوي"، جانب آخر مرتبط بفرض حملة تعبوية طائفية واسعة شملت كل مناشط الحياة طيلة أكثر من شهر، من بينها المؤسسات الإعلامية، والتعليمية، من جامعات ومدارس، خاصة وحكومية، والمساجد، بإجبار خطباء غير منتمين للجماعة الحوثية، رفض الأهالي إزاحتهم، على تبني الخطاب الطائفي والتحريضي الحوثي، والحشد إلى الجبهات بمبرر الاقتداء بجهاد النبي.

استغلال حوثي كثيف للمناسبات، خاصة الدينية، وعلى رأسها المولد النبوي، ليس جديداً، كما أنه لا يتوقف عند مغالطات مرافقة في تثبيت بعض السلوكيات والمفاهيم، بل يمتد إلى ترسيخ تاريخي وديني للمناسبات وكأنها مسلمات غير قابلة للنقاش، في الذهنية الشعبية.

مناقشة تاريخية للمولد

لمصالح إيديولوجية سياسية، وضعت بعض المقولات التي اكتسبت لباساً دينياً، كحقائق تبنى على أساسها مواقف طقوسية مقدسة، تثبيت تاريخ ولادة النبي الأكرم في الثاني عشر من ربيع الأول.

يحظى النبي بحب وامتنان المسلمين في كل الأمكنة والأزمنة، وإذا لم يتبق لمسلمي العصور اللاحقة للقرن الهجري الأول إلا التعاليم النبوية المنقولة شفاهة ثم كتابة، فإن الأجيال الإسلامية الأولى عايشت التعاليم، مقولة ومشخصنة في النبي الخاتم، واستشعرت الفارق المعجز في حياة القبائل العربية وسط الجزيرة ومكانها بين أمم الأرض، قبل بعثة النبي وبعده.

رغم المركزية المطلقة للشخصية النبوية في حياة العرب عقب تحمله أمانة الرسالة السماوية، إلا أنهم ركزوا اهتمامهم بمحمد الرسول أكثر بكثير من محمد البشر، فحرصوا على استمرار النموذج النبوي بتحري الاقتداء بتوجيهاته الرسالية، ولم يلتفتوا إلى ضبط تاريخ وفاته، حتى إن عصر التدوين الإسلامي سجل الخلافات في تحديد تأريخ الوفاة.

إذا كان جدل التاريخ دار حول وفاة النبي كشخص اكتسب بالغ التأثير ومطلق الأهمية، فمن الأولى أن ينشأ خلاف أكبر في ضبط تاريخ ولادته، لا سيما وقد ولد في أسرة فقيرة لا فرسان فيها ولا شعراء، في مجتمع يمجد المال والفروسية والفصاحة، ويعيش عالة على أمم محيطة في عملية تقسيم الزمن والتقويم، ولذلك تناولت كتب التأريخ الإسلامي خلافات ضبط تأريخ الولادة، ما يؤكد من الناحية التاريخية وجود أغلوطة في الأساس الزماني، الذي يشكل قاعدة الاحتفاء بالمناسبات الدينية بما فيها المولد النبوي.

يعتقد باحثون أن احتفالية المولد النبوي منقولة من تقاليد مسيحية ورثوها بدورهم عن الرومان الوثنيين، وبينما يبدو مبرراً وفق الاعتقاد المسيحي السائد بأن لحظة ولادة "النبي" عيسى هي نفسها لحظة تجسد الإله، فلا فارق بين صفة إلهية وبشرية في المسيح، وبحسب هذا المعتقد تتماهى ولادة الشخصية المقدسة مع ولادة الدين، فإنها في المعتقد الإسلامي المؤكد على بشرية الأنبياء ومطلق التوحيد، تنقل الفضيلة من الطبيعة الرسالية لنبينا إلى طبيعته البشرية، وكان يبدو أكثر انسجاماً، إذا توافر دليل نصي، الاحتفاء بذكرى البعثة، على الأقل لوجود إشارة قرآنية وساند حديثي لوقت نزول الوحي الإلهي.

فضلاً عن ذلك، لم يسجل التاريخ الإسلامي، سواءً عن أئمة السنة أو الشيعة أو الخوارج خلال أجيال الثلاثة القرون والنصف الأولى من الحياة الإسلامية، احتفائيات بمناسبات دينية غير نصية.

وعدا عن بعض مظاهر استعراض القوة الطائفية في العهد البويهي، تذكر المصادر خلق الدولة العبيدية "الفاطمية" أولى الكرنفالات الدينية في العالم الإسلامي، من ضمنها المولد النبوي، بعد انتقال مركز الخلافة الفاطمية إلى مصر في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، وتلقيها من المصريين آذاناً صماء تجاه إيديولوجية الدولة الفاطمية الإسماعيلية الشيعية. ومن وقتها استمرت الاحتفائية الدينية، مناسبات تعبوية، وأساليب عامة للإسهام في إعادة بناء الهويات الخاصة.

مناقشة دينية للمولد

في الجانب الديني، تنقسم التعاليم الإسلامية إلى أوامر، ونواهٍ، تكتسب صفتها الدينية البحتة، وإن تعلق بعضها بأمور دنيوية، من قيام قضاياهما على نصوص دينية مباشرة، وتندرج فيهما أعمال طقوسية شعائرية، أو عبادات كما تسميها الأدبيات الفقهية الإسلامية، وتختص بدرجة رئيسية في التعاطي مع الله، ويصعب إخضاعها للتفسيرات العقلية، وتتسم بطابعها الديني المحض، ولا تخضع للمتغيرات الظرفية، الزمانية والمكانية، كما تمثل بؤراً تعبوية تحافظ على دوران الفرد والمجتمع حول الغايات الدينية، ومن هنا يكاد العلماء المسلمون يجمعون على كونها توقيفية، أي نصية لا يجوز الاجتهاد فيها بالتعديل أو الإنقاص أو الزيادة والإضافة، وتمثل طريقة وترتيب أداء المفردات داخل كل شعيرة أساسية الهوية النفسية الخاصة بالدين.

وإلى جوار الشعائر والطقوس التعبدية، تدخل في الأوامر والنواهي النصية أفعال ذات صلة بالحياة البشرية، وهذه يمكن للعقل أن يجتهد بشأنها في إطار المبادئ النصية، ويطلق عليها في الوسط الإسلامي، فقه المعاملات، المتمحور حول توخي العدالة المنفعية في علاقة الفرد، والجمع البشري بمحيطه.

تقع دائرة أوسع، مسكوت عنها نصياً، بين دائرتي الأوامر والنواهي، لا تترتب عليها مخالفة دينية في حالتي الفعل أو الترك، وإن كانت ترتبط دينياً من ناحية وجدانية تستهدف الرضا الإلهي عبر ما يسمى بالنية، وهي المعروفة فقهياً بالمباحات، وهذه الدائرة تتعلق بأمور دنيوية حياتية، أو بناحية المعاملات ولا تتصل بالموضوعات التعبدية ذات الطابع التوقيفي.

الطبيعة النهائية للنص، واللا نهائية للواقع الحياتي، والحرص ربما النزيه، أوجد مساعي رجال دين لربط دائرة المسكوت بدائرتي الأمر والنهي، من خلال ما يعرف بالعلوم الأصولية -الاجتهادية في أساسها- أصول الفقه ومصطلح الحديث، بهدف قراءة للنص وفق قواعد مستنبطة، تعممه على كل مفردات الحياة، نظرياً، وأيديولوجياً، لإبقاء الحياة الزمنية تحت سيطرة، ليس النص، ولكن التفسير النصي الشامل، المحتكر بيد قلة استعارت الطابع الكهنوتي المرفوض إسلامياً من أديان أخرى.

طبقاً لما سبق، المولد النبوي والكرنفالات المناسباتية الدينية، لا تدخل في خانة الأوامر والنواهي الإسلامية، ومن ثم فهي في أحسن حالاتها ليست ملزمة.

لعل موقعها الملائم، دائرة المسكوت عنه، وفي هذه الحال تكون بحاجة لتصنيف، من حيث كونها معاملاتية دنيوية، أم تعبدية شعائرية.

من غير المنطقي اعتبارها شأناً دنيوياً، مثل احتفاليات المناسبات الوطنية وما شابه، من ثم يكون من التعسف البحث عن مخرج، مشرعن، في العلوم الأصولية بخلق ربط نصي لها.

الطبيعة الطقوسية الشعائرية المتمازجة مع دوران الاحتفائية حول رموز دينية بامتياز، مع ما يرافقها من تفصيلات ذات علاقات نصية، كتلاوات قرآنية أو أذكار أو مواعظ، وعدم تعلقها بأغراض معاملاتية. كلها تجعل الاحتفائيات الدينية أقرب إلى الدائرة التعبدية الشعائرية، كالحج أو خطب وصلوات الجمعة والعيدين، كأمثلة، وهي الدائرة المحظورة على اجتهادات الإضافات والتعديلات البشرية.

الطائفية الكرنفالية

تشكل الشعائر التعبدية من صلاة وصيام وحج البعد النفسي للهوية الدينية الإسلامية، فيما تمثل القضايا الأخلاقية والتشريعية وإلى حد كبير الإيمانية، البعد العقلاني. وجميعها بحكم طبيعتها الدينية تصب في القالب الروحي.

وبالنظر إلى الخطاب القرآني، المرجعية النصية الإسلامية المركزية، فإنه يتناول هذين البعدين عبر وسيلتين ملائمتين، أولاهما طريقة الإقناع المنطقي، في الغالب وفق مبادئ أولية بسيطة لكنها بالغة في فعاليتها العقلية، وتشمل مختلف النقاشات للقضايا الإيمانية والمعاملاتية الواردة، فيما تستهدف مضامين الخطاب الأخرى التأثير في التكوين النفسي البشري، كما في القصص القرآني، دون إغفال احتواء بعضه أساليب نقاشية عقلية.

وفي المضمار، نجد تطور الأديان يتجه من تغليب البناء النفسي شبه الكامل للهوية الدينية إلى إفساح مجال أكبر للبعد العقلي في مشاركة بناء الهوية، ولعل هذا يساعد في تعليل موازنة الإسلام في خطابه، وبنائه الهوياتي بين الناحيتين العقلية والنفسية، باعتباره آخر الأديان الكبرى، وكميزة إسلامية تفوق فيها على المرجعيات النصية الأساسية للأديان الرئيسية المهمة، وإن كانت هذه لم تخل من توظيف قدر مهم من الجدل المنطقي في خدمة الغاية الروحية. في ضفة مقابلة تتسم الأديان البدائية بترجيح حاسم للجوانب الشعائرية الطقوسية، وتمثل إضافة شعائر جديدة انتكاساً في الحياة الدينية لمجتمع أو ثقافة ما، وإرجاعهما إلى الحالة الدينية البدائية.

ذات التصور يمكن تنزيله على تفرعات مذهبية ظهرت في البيئة الدينية الإسلامية، إذ أدت إضافات شعائرية، في كثير من الأحيان من خلال احتفائيات مناسباتية إلى تغليب الربط النفسي بالدين على حساب الربط العقلاني، من جهة لتعويض ضعف القدرات التبريرية للمذهب، ومن جهة ثانية لإزاحة العقل من طريق قلة كهنوتية تمسك بين أصابعها ريشة ترسم المشهد الديني باتجاه خلق امتيازات مقدسة تتضمنها التعبئة المرافقة للكرنفالات المناسباتية لبعض المذاهب.

وفي سبيل ترسيخ الامتيازات تُستخدم الاحتفائيات الدينية بعد شرعنتها كوسيلة تنشئة وتعبئة متواصلة، تصنع مع مرور الزمن رابطة نفسية، حاجبة للعقل، مع المذهب تحوله من مجرد اختلافات تفصيلية نظرية إلى هوية خاصة، تفصل أفراده عن محيطهم الثقافي، والسياسي، الوطني حسب المفاهيم الحديثة، وتلقي بهم في مستنقع طائفي تفكيكي وعدائي على المستوى الداخلي للمجتمع الوطني، يرفع الاختلافات المذهبية التفصيلية إلى أصول دينية مقدسة يكون الصراع، وربما الصدام المادي مبرراً بشأنها.

المعضلة في الهوية الجديدة التي يسعى الحوثيون إلى تخليقها، سيما بين صغار السن ومتواضعي التعليم، أنها تسير في اتجاهين مضرين: أولهما وضع طقوس شعائرية كثيفة على الشعائر النصية الأصلية تميع الهوية النفسية للدين الإسلامي. وثانيهما عزل فصيل اجتماعي عن محيطه الثقافي الوطني في حين يفتحه على هوية فوق وطنية يقبع مركزها العددي والإيديولوجي والقيادي في إيران الخمينية.

لا يخرج المولد النبوي، على الطريقة الاحتفائية الحوثية، عن أداة تعبوية، تكثف حملة بناء هوية خاصة لقطاع من اليمنيين، وتفكك نسيجهم الاجتماعي الثقافي، بتحويلها ذكرى المولد النبوي إلى ظاهرة طائفية، تحريضية وعدائية للداخل اليمني المخالف.

وفي خطابه، الأحد الماضي، بمناسبة احتفالية جامعية بالمولد، قال زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي "معرفة نسبة ما حرف من الدين وكذب على رسول الله، ومعرفة الجانب المغيب من أسس الدين أمران في غاية الأهمية". شيء جيد إذا كان المقصود إخضاع ما اعتبره تحريفاً، وتغييباً، للنقد في ضوء المنهجيات العلمية الحديثة، بحيث يشمل المقولات الأساسية لكل المذاهب الإسلامية الكبرى. سياق الخطاب الأخير للحوثي وخطاباته الأخرى وأطروحات الجماعة الحوثية عموماً، تؤكد أن المعني بالتحريف معظم المذاهب الإسلامية المخالفة للمقولات التشيعية المتطرفة، والمقصود بالجانب المغيب، مقولة الولاية السلالية.

استورد الحوثيون كثيراً من المناسبات الكرنفالية الإيرانية ذات الطابع الهوياتي الطائفي الظاهر، والمسكون بمصطلحات العداء والثأر من معظم المحيط الإسلامي. لكن النوعية الاحتفائية الطائفية، غير المغطاة برمز جمعي، تلاقي عزوفاً مجتمعياً من أغلب اليمنيين، حتى في الوسط الزيدي، يقلل من مداها التعبوي والزمني والشعبي، بعكس المولد النبوي المقدس عند جماعات صوفية منتشرة ومؤثرة في عوام الناس، والمعتبر لدى متديني الشافعية والزيدية، ما يتيح استغلال ذكرى المولد كسيف مسلط على رقاب المخالفين للخطاب الحوثي دون أن تكون الجماعة الحوثية في موضع التهمة الطائفية.

الواقع الاحتفالي الحوثي جعل النبي الأكرم، طيلة أزيد من شهر تعبوي سابق لربيع الأول، صورة باهتة خلف تفاصيل متخمة بهوية طائفية، معدتها في صنعاء وقلبها في طهران، تظللها عمامة الخميني لا شجرة البن.

التقارير