اليقين
التقارير

ما الأسباب الخفية وراء رفض أردوغان مبادرة السلام المصرية؟

اليقين

حامد فتحي

باحث مصري في حقل الدراسات الإسلامية .>>>

في مصر مثل شعبي يقول "طلع من المولد بلا حمّص"، ومعناه أنّه خسر كلّ شيء، حتى أقل القليل، وهو الحمّص الذي يشتريه الجميع بسعر زهيد في أيام الموالد، كأحد طقوس الاحتفال، يكاد ينطبق هذا المثل على حالة أردوغان في ليبيا حتى الآن؛ فرغم سيطرة ميليشيات الوفاق الخاضعة له، وميليشياته الإرهابية التي نقلها إلى ليبيا، على طرابلس ومناطق الغرب الليبي، إلا أنّ ذلك لا يساوي حفنة الحمّص بالنسبة إلى أطماع أردوغان في ليبيا.

تشكيل قوى أمنية ليبية حديثة سيعني طرد الوجود العسكري التركي والميليشيات الإرهابية التي جلبها من تركيا وسوريا

فما يزال حلم السيطرة على ثروات النفط الليبية بعيد المنال، بفضل صمود أبطال الجيش الليبي في سرت والجفرة؛ بوابتي منطقة الهلال النفطي، ودحرهم لميليشيات أردوغان الإرهابية التي حاولت الاقتراب من المدينة، ما يعني أنّ حلم أردوغان بتعويض ما أنفقه على الصراع في ليبيا بالسيطرة على النفط بات في عداد المستحيلات.
فضلاً عن ذلك؛ يسابق أردوغان الزمن لنيل مكاسب أكبر على الأرض قبيل الرضوخ للضغوط الدولية للعودة إلى طاولة المفاوضات، والقبول بالمبادرة المصرية للسلام، لإدراكه أنّ تمخض حكومة وحدة وطنية عن المفاوضات، يشارك فيها الحريصون على مصالح ليبيا، بدلاً من هيمنة أتباعه من جماعة الإخوان المسلمين على طرابلس، هو بمثابة القضاء التام على ما حققه من مكاسب بفضل السيطرة على قرار حكومة الوفاق، وعلى رأس ذلك إلغاء اتفاقيتَيه الباطلتَين بخصوص ترسيم الحدود، والتعاون العسكري، وحصته الكبرى في مشروعات إعادة الإعمار، وفقدانه لموطئ قدم قريب من غاز شرق المتوسط، وإعادة الإرهابيين الذين جلبهم إلى المناطق التي يسيطر عليها في سوريا، وغير ذلك.

width="853px">

التربّح من الفوضى
يعمل أردوغان عبر وكلائه المحليين من الفروع التابعة للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين على إشاعة الفوضى في البلاد العربية، تمهيداً للتدخل المباشر في هذه البلاد تباعاً، لنهب ثرواتها الطبيعية، والسيطرة على اقتصادها، ولتحقيق حلمه الكبير بإحياء التراث العثماني البغيض، وتنصيب نفسه سلطاناً على رقاب العرب والمسلمين.
تسبّب انقلاب الإخوان المسلمين على العملية السياسية في ليبيا، عام 2014، في جرّ البلاد إلى مستنقع الفوضى والاقتتال الداخلي، فوجد الأتراك موطئ قدم للتدخل لدعم أتباعهم الإخوان، بهدف تمكينهم من السيطرة على مفاصل الدولة الليبية ومقدرات شعبها، وتسخيرها في خدمة مشروعات أردوغان.
في حديثه لـ "حفريات"، يقول الكاتب والباحث المصري، عصام الزهيري إنّ "أطماع أردوغان في ليبيا أيديولوجية وانتهازية؛ الأولى تشمل ليبيا بالكامل أو الإرث العثماني الذي يظنّ أنّه ورثه، وحصار مصر، التي يراها أكبر عقبة في تحقيق أطماعه بإقامة إمبراطورية عثمانية جديدة على الأراضي التي شغلتها الدولة العثمانية قديماً، وانتهازية تتمثل في نيل حصة كبرى من النفط والغاز، ومشاريع إعادة التعمير".
حقق أردوغان جزءاً من أطماعه في ليبيا حتى الآن، وتتمثّل في توقيع اتفاقية ترسيم حدود باطلة، يتخذها ذريعةً لنهب ثروات الدول الأخرى في البحر المتوسط، وهو ما أشار إليه المحلل السياسي التركي، علي باكير الذي أكد أنّ نفوذاً قوياً لأنقرة في ليبيا يعزز موقعها في رهانات إقليمية أخرى، ويسمح لها ببسط نفوذها بشكل أكثر فاعلية خارج محيطها المباشر، بالنسبة إلى ملفات حيوية مثل تقاسم المناطق النفطية في شرق المتوسط والنزاع في سوريا والهجرة إلى أوروبا، وفق حديثه لموقع "يورو نيوز".

width="853px">

علاوةً على ذلك؛ يسعى أردوغان لإيجاد موطئ قدم في الشمال الأفريقي للإضرار بمصالح دوله وعلى رأسها مصر، والتخلص من فائض الإرهابيين الذين شكلهم في سوريا، وتحقيق حلمه بإحياء الإرث العثماني في ثوب تركي خالص، معللاً تدخله العسكري بأنّه جاء بطلب من حكومة الوفاق، المعترف بها دولياً.

بات أردوغان بين نارين الآن؛ إما أن يوافق على المبادرة المصرية ويخرج خاسراً كلّ شيء، أو يستمر في الحرب

ارتباطاً مع ذلك، واعترافاً من القيادة العامة للجيش الليبي، والبرلمان، والداعمين الإقليميين بضرورة رأب الصدع في ليبيا، وتأسيس دولة حديثة تشمل جميع الليبيين دون إقصاءٍ لأحد، شريطة طرد الإرهابيين، والولاء للوطن بدلاً من الولاء للقوى الخارجية، جاء انسحاب الجيش الليبي من محيط طرابلس، ومناطق الغرب الليبي وقاعدة الوطية، لفسح المجال أمام العملية السياسية، والتي تمثّلت في المبادرة المصرية للسلام التي طرحها الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ما جعل الكرة الآن في ملعب حكومة الوفاق، للبرهنة على صدق ادعاءاتها بخصوص مصلحة الليبيين، وهو ما أكّده اللواء أحمد المسماري، المتحدث الرسمي باسم الجيش الوطني الليبي، في تصريحات سابقة.
غير أنّ استمرار حكومة الوفاق، رضوخاً لهيمنة الإخوان المسلمين، في عدوانها على الشعب الليبي بالهجوم على مدينة سرت، ورفض مبادرة السلام المصرية، رغم تحقيق الجيش الوطني لمطلبهم الأساسي، وهو الانسحاب من الغرب ومحيط طرابلس، يؤكد أنّ قرار هذه الحكومة مرهون بأجندة أردوغان والتنظيم الدولي للإخوان، وليس مصلحة الليبيين.

width="853px">

الحرب خيار أردوغان
يرى الزهيري أنّ تدخّل أردوغان في ليبيا جاء بضوء أخضر من الناتو لاستباق وموازنة أيّ تدخّل روسي، وهو ما تحقق، وبقي الهدف الحقيقي لأردوغان، وهو تحقيق أطماعه في ليبيا، وزعزعة الاستقرار في مصر.
يكشف رفض أردوغان القاطع وحكومة الوفاق للمبادرة المصرية، والتعنت الشديد ضدّ أيّ دور مستقبلي للمشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني، في خطوة ترمي إلى زرع قيادات موالية لأردوغان في قيادة أيّ جيش ليبي موحد قد يسعى الفاعلون الدوليون والإقليميون لتشكيله، عن اعتراف غير مباشر بأنّ مخطط الهيمنة التركي على البلاد ما يزال بعيد المنال، وأنّ الدخول في مفاوضات السلام يعني خسارة تركيا.
يدعم الكاتب عصام الزهيري ما سبق بقوله بأنه "لو وافق أردوغان على المفاوضات لن يحقق أياً من أهدافه، سواء الاقتصادية لدعم اقتصاد تركيا المأزوم، أو لتلافي الانتقاد الشديد من المعارضة الداخلية، حتى مشاريع الإعمار لن يحصل على شيء كبير منها، لرفض عموم الليبيين التدخّل التركي".
بات أردوغان بين نارين الآن؛ "إما أن يوافق على المبادرة المصرية ويخرج خاسراً كلّ شيء، أو يستمر في الحرب مما يعني مزيداً من الاستنزاف للقوات الموالية له، ومزيداً من الخسائر في صفوف جيشه، وهو ما سيجلب عليه غضباً شديداً في الداخل التركي"، وفق الزهيري.

width="853px">

ساعد على تأزيم الوضع ربط أردوغان سياسته في المنطقة العربية بمواقفه الأيديولوجية، فجاء التدخل في ليبيا بهدف التمكين لجماعة الإخوان المسلمين، عبر بوابة حكومة الوفاق المعترف بها دولياً، دون وجود أيّة نية لمساعدة الليبيين في تجاوز الاقتتال الداخلي، لارتباط مصالح أردوغان بالفوضى التي تسمح له بالتدخل عسكرياً، وتنفيذ مخططاته بقوة الأمر الواقع.
وبينت الباحثة جنى جبور، من معهد العلوم السياسية في باريس والمتخصصة في السياسة الخارجية التركية، علاقة الوفاق بأردوغان بقولها: إلى الآنّ الأمر بمثابة "لعبة رابح-رابح: حكومة الوفاق الوطني تحوز على الدعم السياسي والعسكري التركي، وفي المقابل تساعد تركيا على تحقيق أهدافها في ملف الطاقة، كما ترغب أنقرة في الحفاظ على مصالحها الاقتصادية في ليبيا، خاصة في قطاع البناء؛ إذ ستكون مهددة في حال انتصار حفتر، وفق ما جاء في تقرير نشره موقع "دويتشه فيله"، في آذار (مارس) 2020.

حكومة وحدة وطنية
يدرك أردوغان أنّه لا مستقبل له في ليبيا في حال انبثاق حكومة وحدة وطنية عن أيّة مفاوضات بين الأطراف المتنازعة، لذلك يتشبث بقوة بخيار الحرب، بهدف تحقيق أطماعه في الثروات الليبية بالقوة، ثم البحث عن شريك يقبل اقتسام النفوذ معه في ليبيا، مثلما في سوريا مع الروس، وهو الأمر غير المرجح، نظراً لموقف مصر والدول الإقليمية الرافضة لأيّ مساس بسيادة ليبيا ووحدتها.
يبين عصام الزهيري؛ أنّ انتهازية أردوغان تجعله يقبل بتقاسم النفوذ في ليبيا مع أيّ شريك محتمل، خصوصاً الروس، أو حتى مصر، لكنّ الزهيري يشدّد على أنّ "موقف مصر ثابت وواضح؛ وهو أنّ ليبيا لليبيين، ووحدتها وسيادتها خطّ أحمر".

width="853px">

من المتوقع استمرار أردوغان في خيار الحرب، حفاظاً على مكاسبه التي جناها بطريقة غير مشروعة، وبعمالة الإخوان المسلمين، ولن يقبل بمفاوضات تؤدي إلى تشكيل حكومة وطنية تعيد النظر في الاتفاقيات الباطلة التي وقّعتها حكومة الوفاق مع تركيا، وتضع مصلحة ليبيا قبل مصالح تركيا، إلى جانب أنّ تشكيل قوى أمنية ليبية حديثة سيعني طرد الوجود العسكري التركي، والميليشيات الإرهابية التي جلبها من تركيا وسوريا، لتعود مرةً أخرى إلى تركيا، وهو أمر كفيل بتدمير حظوظ أردوغان وحزبه الانتخابية في أيّة انتخابات مقبلة.
ويبقى الأمل الأخير لأردوغان في السيطرة على سرت والجفرة والهلال النفطي، ثم القبول بمفاوضات من منطق القوة، تتيح له تهميش أيّ طرف ليبي غير موالٍ له، وتمكّنه من فرض مصالح تركيا وأطماعها على الشعب الليبي، ويبقى الأمل معقوداً على الجيش الوطني الليبي، وحلفائه الإقليميين للدفاع عن ليبيا في وجه الأطماع التركية.

التقارير

آخر الأخبار

الفيس بوك

تويتر