اليمن في مؤتمر المناخ COP30: صرخة من أجل الإنصاف المناخي وسط أزمات متشابكة
بقلم المهندس / طارق حسان
خبير البيئة والتغيرات المناخية
تتجه الأنظار نحو مدينة بيليم البرازيلية، حيث ينعقد مؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP30)، ليشكل منصة لإعادة تقييم الالتزامات العالمية. وفي هذا المشهد، تبرز مشاركة اليمن كـ "صرخة من أجل الإنصاف المناخي"، لتجسد المفارقة الأكثر قسوة في معادلة المناخ العالمية؛ إذ لا تتجاوز مساهمة اليمن في الانبعاثات الكربونية العالمية جزءاً ضئيلاً، لكنها تُصنف ضمن الدول الخمس الأكثر تضرراً من آثارها المدمرة. إن حضور اليمن في هذا المحفل يتجاوز التمثيل الدبلوماسي التقليدي، ليصبح محاولة استراتيجية لإسماع صوت شعب يعيش في قلب عاصفة مركبة، حيث تتشابك تداعيات صراع ممتد لسنوات مع وطأة التغيرات المناخية القاسية.
يعاني اليمن من حالة "هشاشة مركبة"، وهو مصطلح يصف التفاعل المدمر بين الصراع الطويل الأمد، والانهيار الاقتصادي، والآثار المتفاقمة لتغير المناخ. أدى هذا التفاعل إلى تدمير البنية التحتية وانهيار الخدمات، وجعل البلاد عاجزة عن التكيف مع الصدمات المناخية المتزايدة. وتتجلى الآثار المناخية في اليمن بأبعاد اقتصادية وإنسانية بالغة الدقة، حيث تجاوزت الخسائر الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة الناجمة عن التغيرات المناخية حاجز 9 مليارات دولار أمريكي، وهو رقم يمثل ضربة قاصمة لاقتصاد منهك أصلاً. تتوزع هذه الخسائر على قطاعات حيوية؛ ففي القطاع الزراعي والأمن الغذائي، أدت موجات الجفاف والفيضانات إلى تقصير مواسم الزراعة وانخفاض غلات المحاصيل، مما يهدد الأمن الغذائي لملايين اليمنيين. وتعمل الفيضانات العنيفة على جرف التربة السطحية الخصبة، مما يقلل من القدرة الإنتاجية للأراضي على المدى الطويل. أما على السواحل، فيمثل تغير المناخ تهديداً وجودياً للقطاع السمكي وسبل كسب العيش، مما يفاقم الضغط على "الاقتصاد الأزرق" الهش، حيث يؤثر ارتفاع درجة حرارة سطح البحر وتحمض المحيطات سلباً على التنوع البيولوجي البحري ويهددان مصادر دخل آلاف الصيادين. وتفاقمت الأزمة لتشمل التكاليف الصحية والاجتماعية، حيث من المتوقع أن تتجاوز التكاليف الصحية الإضافية المرتبطة بالمناخ 5 مليارات دولار بحلول عام 2050، مما يثقل كاهل نظام صحي شبه منهار، وتشمل هذه التكاليف الأمراض المنقولة بالمياه بعد الفيضانات، والأمراض المرتبطة بالحرارة الشديدة، وسوء التغذية الناتج عن تدهور الأمن الغذائي.
وتعد أزمة المياه في اليمن مثالاً صارخاً على التقاطع المدمر بين المناخ وسوء الإدارة والصراع. تواجه البلاد نقصاً مزمناً في المياه، حيث يتم استنزاف المياه الجوفية بمعدل ضعفي معدل تجديدها. وتقترب آبار المياه التي تغذي المدن الكبرى مثل صنعاء من النضوب التام، مع تحذيرات دولية من أن المياه الجوفية قد تُستنفد بالكامل خلال السنوات الست القادمة. هذا النضوب يهدد بـ "نزوح مناخي" داخلي واسع النطاق، حيث يضطر السكان إلى مغادرة مناطقهم بحثاً عن مصادر مياه مستدامة. كما يؤدي شح المياه وتدهور الموارد إلى تفاقم الصراعات المحلية على الموارد الشحيحة، مما يربط بشكل مباشر بين الأمن المناخي والأمن المجتمعي. إن الصراع لم يدمر البنية التحتية فحسب، بل أزال القدرة على صيانتها أو إعادة بنائها لتكون مقاومة للمناخ، فقد تعرضت السدود وشبكات الري ومحطات معالجة المياه للتدمير أو الإهمال، مما قلل من قدرة البلاد على إدارة مياه الأمطار والاستفادة منها، وجعلها عرضة للفيضانات المدمرة، مما أدى بدوره إلى زيادة أعداد النازحين داخلياً، الذين يعيشون في مخيمات تفتقر لأدنى مقومات الصمود.
جاءت مشاركة الوفد اليمني في COP30، ممثلاً بنائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي الفريق الركن طارق صالح، لتحدد ثلاث ركائز استراتيجية لموقف البلاد، ترتكز على مبدأ العدالة المناخية. وتعد المطالبة بالتفعيل الفوري لصندوق الخسائر والأضرار هي القضية المحورية لليمن، فالبلاد، كواحدة من أكثر الدول تضرراً، تحتاج إلى آليات تمويل ميسّرة وشفافة تمكنها من إعادة بناء قدراتها المتدهورة. وقد شدد الوفد على ضرورة أن يصل التمويل إلى الدول الهشة والمتأثرة بالصراعات "دون تعقيدات بيروقراطية"، معتبراً أن هذا التمويل "ليس ترفاً بل شرط أساسي" لتمكين الدول النامية من الإسهام الفاعل في الجهد العالمي. يطالب اليمن بآلية تمويل مرنة تتجاوز الشروط المعقدة للتمويل التقليدي، وتسمح بالوصول المباشر للأموال لتمويل مشاريع التعافي السريع وإعادة بناء البنية التحتية المتضررة من الكوارث المناخية مثل الفيضانات، مع التأكيد على ضرورة أن يكون التمويل في شكل منح وليس قروضاً، نظراً للوضع الاقتصادي المنهار والديون المتراكمة.
وفي سياق التكيف الاستراتيجي وبناء القدرات الوطنية، دعا اليمن إلى تحويل التمويل المناخي إلى استثمارات حقيقية وملموسة في البنية التحتية المقاومة للمناخ، خاصة في قطاعي المياه والزراعة. وتضمنت الرؤية اليمنية إطلاق الخطة الوطنية للتكيف (NAP)، والتي تركز على مشاريع حصاد المياه، وبناء السدود والحواجز المائية الصغيرة، وتطوير أنظمة الري الحديثة لتقليل الاعتماد على المياه الجوفية، بالإضافة إلى برامج لتعزيز الزراعة المقاومة للجفاف. كما عكس الإعلان عن إنشاء مركز للمعلومات والذكاء الاصطناعي لإدارة البيانات البيئية والمناخية توجهاً نحو الحلول التكنولوجية المتقدمة في مواجهة الأزمة، حيث يهدف المركز إلى توفير بيانات دقيقة وفي الوقت المناسب حول أنماط الطقس المتطرفة لتمكين الإنذار المبكر وتخطيط مشاريع التكيف بكفاءة أعلى.
أما الركيزة الثالثة، فتتمثل في الأمن المناخي وحماية الممرات المائية الحيوية، حيث ربط الوفد اليمني بين العمل المناخي وبناء السلام، مؤكداً أن "استدامة البيئة لا يمكن تحقيقها في غياب السلام". وفي هذا السياق، تم تسليط الضوء على قضية بالغة الأهمية على المستوى الإقليمي والدولي، وهي التحذير من الخطر البيئي المحدق بالبحر الأحمر نتيجة "السلوك الإجرامي" لمليشيا الحوثي، الذي تسبب بتسربات نفطية وتلوث بحري واسع. وتضع هذه القضية على المجتمع الدولي مسؤولية دعم قدرات اليمن على الاستجابة للطوارئ البيئية وحماية التنوع البيولوجي في هذا الممر المائي الحيوي، والمطالبة بإنشاء صندوق دولي خاص للاستجابة السريعة للكوارث البيئية في البحر الأحمر، وتزويد الحكومة اليمنية بالتقنيات والمعدات اللازمة لمكافحة التسربات النفطية والتلوث البحري.
على الرغم من المطالب الواضحة، يواجه اليمن تحديات هيكلية وقانونية وسياسية معقدة في الوصول إلى التمويل المناخي الدولي، مما يضع مشاركته في COP30 في سياق أوسع من "جاهزية التمويل" (Climate Finance Readiness). يُعد صندوق المناخ الأخضر أكبر آلية تمويل مناخي، وقد خصص لليمن دعم جاهزية بقيمة 6.4 مليون دولار أمريكي لـ 6 أنشطة جاهزية بهدف بناء القدرات المؤسسية والوطنية اللازمة لتقديم مقترحات مشاريع كبرى. ومع ذلك، فإن حالة الصراع والانقسام المؤسسي تعيق بشكل كبير قدرة اليمن على تلبية المتطلبات الصارمة للصندوق، خاصة فيما يتعلق بالشفافية والمساءلة. وبالمثل، فإن الوصول إلى صندوق التكيف يتطلب وجود كيان وطني معتمد، وبسبب حالة الانقسام الحكومي، يضطر اليمن للاعتماد على وكالات دولية مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي كـ "كيانات تنفيذية"، مما يطيل الدورة البيروقراطية ويقلل من السيطرة الوطنية على أولويات التمويل. وتكتسب المطالبة اليمنية بتحويل التمويل إلى منح بدلاً من قروض أهمية قصوى، فالدول الهشة والمتأثرة بالصراعات تتكبد خسائر أكبر بأربعة أضعاف عقب الكوارث، مما يجعلها غير قادرة على تحمل أعباء ديون إضافية.
إن إطلاق خطة التكيف الوطنية (NAP) في اليمن، بتمويل من صندوق المناخ الأخضر وبإشراف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، يمثل خطوة استراتيجية نحو التمكين. تركز الخطة على أربعة قطاعات ذات أولوية هي المياه، والزراعة، والصحة، والمناطق الساحلية. وتشير التقديرات إلى أن اليمن يواجه خطر خسارة تراكمية للناتج المحلي الإجمالي قدرها 93 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2060 في حال عدم التكيف، بينما يمكن لتدابير التكيف أن تحقق مكاسب اقتصادية تراكمية بقيمة 360 مليار دولار أمريكي. هذا التباين يوضح أن العمل المناخي في اليمن ليس مجرد إنقاذ إنساني، بل هو استثمار اقتصادي حيوي.
تتجاوز قضية اليمن في COP30 كونها ملفاً إنسانياً، لتصبح اختباراً حقيقياً لمدى جدية المجتمع الدولي في تطبيق مبادئ العدالة المناخية. فالنساء والشباب في اليمن هم أول من يدفع الثمن، حيث تضطر النساء لقطع مسافات أطول لجلب المياه، مما يعرضهن لمخاطر صحية ويقلل من فرصهن في التعليم والعمل. ينظر اليمن إلى مؤتمر COP30 باعتباره "فرصة لإعادة بناء الثقة بين الدول المتقدمة والدول النامية، وتحويل الموعود إلى أفعال، والأهداف النظرية إلى التزامات واقعية قابلة للتنفيذ". إن رسالة اليمن واضحة: لا يمكن تحقيق الأمن المناخي العالمي دون تحقيق العدالة المناخية للضحايا. إن دعم اليمن في مواجهة تحدياته المناخية المتشابكة هو التزام أخلاقي واستراتيجي، ويجب أن تكون قمة COP30 قمة "للتنفيذ والعدالة".





















