استفتاء كردستان العراق وخيارات أنقرة الضعيفة


بالرغم من التصعيد الكبير الحاصل في التصريحات الإعلامية والمواقف السياسية التركية إزاء الاستفتاء المزمع في إقليم كردستان العراق، بعد بضعة أيام، بشأن انفصال الإقليم عن العراق؛ إلا أنه لا يبدو أمام تركيا الكثير من الخيارات فيما يتعلق بما يمكن أن تأخذه من خطوات على الأرض لمنع الاستفتاء، أو التصدي للتبعات التي سوف تعقبه على أمنها القومي.
ولئن كان هناك أمرٌ أكيد في تصريحات ومواقف القيادات التركية في هذا الصدد؛ فإنه ذلك الذي أكده رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدرِم، من أن الاستفتاء يهدد الأمن القومي التركي.
وفي حقيقة الأمر؛ فإنه إذا ما كان هناك أمرٌ متفقٌ عليه بين دول المنطقة المتصارعة والمتباينة في هويات أنظمتها القومية والسياسية؛ فإنه ضرورة عدم السماح لأي من الجماعات والأحزاب السياسية أو المجموعات العسكرية الكردية في أيٍّ منها، بتحقيق أي شكل من أشكال الانفصال أو حتى الاستقلالية السياسية أو المؤسسية عن المركز.
لأن ذلك من شأنه الإضرار بمصالح الأمن القومي للدول الأربع الأساسية التي يوجد فيها أقليات كردية، وهي: تركيا وسوريا والعراق، وبشكل أقل، إيران؛ حيث يرتبط بوحدة ترابها الإقليمي ذاته، وهو أساس الأمن القومي لأي دولة.
ويكتسب الملف أهمية خاصة بالنسبة لتركيا لأنه يتعلق بأزمة معقدة على المستويات الأمنية والسياسية والعسكرية، بل ويرتبط بالنظام الذي أسسه حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، وبشخص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
فأردوغان أسس شعبيته وقوته السياسية والجماهيرية، على أساس إنجازاته، والإنجازات التي حققتها الحكومات المتتالية للعدالة والتنمية منذ توليه السلطة في انتخابات العام 2002م، والوعود الكثيرة بجعل تركيا دولة عظمى، وتوحيدها بعد عقود طويلة من الصراعات السياسية والاجتماعية بفعل الانقلابات الدموية المتكررة، والأزمة في مناطق الأكراد، والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من الأتراك.
ففي الفترة ما بين العام 1986م، وحتى تولي "العدالة والتنمية" الحكم؛ سقط حوالي ما بين 30 إلى 40 ألف قتيل في التمرد الكردي الذي قاده "حزب العمال الكردستاني" التركي، بالإضافة إلى مئات الآلاف من المعتقلين والمنفيين والمختفين بفعل انقلاب العام 1980م.
ولقد خلَّفت هذه الأزمات التي تتالت على البلاد منذ الانقلاب الأول عام 1960م، الذي أطاح بحكومة رئيس الوزراء عدنان مندريس؛ الكثير من الانقسامات الاجتماعية والسياسية التي تعهد أردوغان بمعالجتها والقضاء على جذورها.
ويُعتبر الملف الكردي هو الأصعب في هذا الصدد، ففي حين استطاعت حكومة “العدالة والتنمية” الأولى (2002م – 2006م)، ضبط الأوضاع الاقتصادية، وخصوصًا معدلات التضخم والدين الخارجي، والتي كانت الأعلى في العالم؛ فإن أردوغان لم يتوصل إلى أي اتفاق مع "حزب العمال الكردستاني"، والأطراف الكردية الأخرى التي لا تؤيد الانفصال، ولكنها تسعى للحصول على مزيد من الحقوق للأكراد في تركيا، إلا في العام 2013م.
في ذلك الوقت، ظهرت بوادر لمعالجة شاملة للملف، وبالفعل، بدأت أولى هذه البوادر في الانتصار الانتخابي الذي حققه "حزب الشعوب الديمقراطي" المؤيد للأكراد، في الانتخابات العامة التي أجريت في تركيا، في العام 2015م، وصار القوة الرابعة في البرلمان التركي، وكان هناك تقارير عن نية النظام التركي الإفراج عن زعيم "حزب العمال الكردستاني"، عبد الله أوجلان، المعتقل في سجن جزيرة "إيمرالي" التركية.
وحتى هذا الاتفاق لم يصمد، وظهرت تيارات عنفية متمردة – قد تكون مدفوعة من الخارج وفق تقارير عدة لإفشال الاتفاق – داخل الإطار الكردي، مثل جماعة "صقور كردستان"، والتي نفذت خلال العامَيْن الماضيَيْن، هجمات عدة في تركيا.
وشهد العام 2016م انقلابًا كبيرًا من أردوغان على حلفائه الأكراد عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة التي جرت في الخامس عشر من يوليو من ذلك العام، بعد أن ساندوه في الانتخابات العامة في 2015م، بعد خسارة الأغلبية المطلقة التي مُنِيَ بها حزبه في الجولة الأولى لها، في يونيو من ذلك العام، وكانت أصوات الأكراد والقوميين خلف الانتصار الذي عاد وحققه "العدالة والتنمية" في الإعادة التي تمت في نوفمبر 2015م.
فشملت حملة التطهير والاعتقالات التي قامت بها السلطات التركية عقب المحاولة الانقلابية، رموزًا سياسيين أكراد، من بينهم قادة في حزب الشعوب الديمقراطي، ونوابًا عنه.
وبقطع النظر عن تفاصيل كثيرة تمس الملف الكردي التركي بشكل حصري، قد تخرج هذا الحديث عن سياقه الرئيسي؛ إلا أنه من المهم الإشارة إلى أن أحد أهم عوامل الأزمة الراهنة التي تواجهها تركيا، هو سياساتها في المنطقة، وبالذات في الملف الكردي، وفي الأزمة السورية بطبيعة الحال.
تركيا تدفع ثمن أخطائها!
في حقيقة الأمر؛ فإن تركيا في الملف الكردي، تدفع ثمن العديد من الأخطاء الكارثية التي ارتبكتها حكومات "العدالة والتنمية"، ويُسأل عنها أردوغان بشكل حصري، في ظل تركيز السلطات كاملة في يدَيْه، سواء بحكم الدستور والقانون (ظل رئيسًا للحكومة منذ 2002م، وحتى 2015م، لأن لائحة حزبه تمنع تولي رئاسة الوزراء أكثر من ثلاثة فترات متتالية)، أو بحكم الأمر الواقع، في ظل شعبيته الجارفة التي وظفها أردوغان لصناعة ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح "ديكتاتورية انتخابية"، وهي من نوع فريد ربما لا يوجد في العالم سوى في تركيا.
أول وأكبر خطأ، كان الاعتماد على رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البارزاني، كـ"صديق" وسط الأكراد في المنطقة بالكامل، وإظهار "مودة" إزائه في إطار النزاع الذي دخلته تركيا مع إيران وحلفائها في سوريا وطال حكومة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، المدعومة من طهران، باعتبار أن إيران هي أكبر داعمي النظام السوري الذي تحاربه أنقرة بالوكالة من خلال فصائل المعارضة السورية المسلحة.
ووصل الأمر إلى أن تركيا استقبلت البارزاني كـ"رئيس دولة" بالفعل نكاية في العبادي، وزاد من حجم التقارب التركي مع البارزاني خلال الأزمة الكبيرة التي اندلعت في العام 2016م، عندما عارض العبادي مشاركة تركيا في معركة تحرير الموصل من قبضة تنظيم الدولة "داعش"، والتي بدأت في 17 أكتوبر 2017م، أو خروج القوات التركية المرابطة في معسكر "بعشيقة" في شمال العراق منذ العام 1992م، وطلب إخلاء المعسكر.
القلق التركي الأكبر كان على تركمان المنطقة، وطلب عدم مشاركة قوات الحشد الشعبي الشيعية المدعومة من إيران، في معارك تحرير "الموصل" و"تلعفر".
ولما تحدى العبادي طلبات أردوغان في هذا الصدد، زادت تركيا من حجم تعاونها مع البارزاني الذي أبدى، وبصبر ولسنوات طويلة، الوجه المعتدل للأكراد في المنطقة، وظهر بصورة السياسي المنفتح الذي يتفهَّم اعتبارات الأمن القومي لدول الجوار، وعلى المستوى الإقليمي.
بل وساعد البارزاني تركيا في فترة من الفترات على التصدي للوجود الكردي التركي والسوري على أراضي إقليم كردستان العراق، من خلال، أولاً، السماح لتركيا بتنفيذ عمليات عسكرية جوية وبرية ومدفعية ضد عناصر "حزب العمال الكردستاني" المتمركزة في جبال كردستان العراق، وطلبه من العناصر الكردية السورية والتركية المسلحة مغادرة الإقليم.
ولا أحد يفهم كيف انزلق أردوغان على وجه الخصوص إلى هذا المنزلق؛ حيث يعلم الجميع أن البارزاني هو أهم شخصيات المشروع الكردي ليس في العراق حسب، وإنما في المنطقة بالكامل، ويتولى تنسيق الجهود السياسية والعسكرية لمشروع الانفصال الكردي في العراق، منذ وفاة والده مصطفى البارزاني، عام 1979م، والذي كان معروفًا بعلاقاته الوطيدة مع إسرائيل والمنظمة الصهيونية العالمية.
وهو – أي مسعود – هو الذي تفاوض على الحكم الذاتي للإقليم مع الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، ثم حصل عليه من النظام الذي نصَّبه التحالف الأنجلو أمريكي الذي احتل العراق عام 2003م، وبمساعدة إيران وحلفائها، و"الحزب الإسلامي العراقي" (إخوان العراق).
وطيلة الأعوام الماضية، وفي إطار سياقات الصراع الدموي المخيف في سوريا، عززت تركيا من علاقاتها مع إقليم كردستان العراق، ووصل النكاية بأنقرة لحلفاء إيران في العراق، في حكومة بغداد، إلى أن قامت بشراء النفط الكردي الذي تصدره أربيل بخلاف رغبة الحكومة المركزية في بغداد، بل وسمحوا بنقل النفط الكردي العراقي عبر ميناء "جيهان" التركي بدءًا من مايو 2014م.
الخطأ الإستراتيجي الثاني، وربما يتساوى في أثره وخطره على الأمن القومي التركي، والذي وقعت فيه أنقرة، هو أنها ساعدت بالتعاون مع حكومات وأنظمة خليجية، ولاسيما الحكومة القطرية، والنظام السعودي، في إشاعة الفوضى في سوريا.
كان شركاء الدمار في سوريا، يظنون أنهم سوف يطيحون بنظام الرئيس السوري بشار الأسد، سريعًا، ولكن الذي حصل أن حلفاءه لم يتركوه، وتعلم الروس الدرس المرير الذي تلقونه من حلف شمال الأطلنطي "الناتو"، في ليبيا، عند الإطاحة بنظام العقيد الليبي معمر القذافي.
ولما طال أمد الحرب؛ كان من الطبيعي أن يتمدد المشروع الكردي. وأكراد سوريا أخطر بكثير من أكراد العراق؛ حيث إن "حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي"، يُعتَبر الامتداد السوري لـ"حزب العمال الكردستاني" التركي، ويقدم دعمًا عسكريًّا وأمنيًّا لأكراد تركيا الانفصاليين.
وهؤلاء – أي اكراد سوريا – يحصلون على دعم سياسي وعسكري أمريكي رسمي وصريح، كما يحظون برعاية روسية في ظل ما يقدمونه من خدمات بمشاركتهم في معارك تحرير الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم "داعش"، بما في ذلك معاقلهم الأهم في دير الزور والرقة.
وبطبيعة الحال؛ استطاع الحزب الكردي السوري، من خلال قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب الكردية، أن يستغل الموقف؛ فأعلن أنه لن ينسحب من المناطق التي سيطر عليها، ومن بينها مناطق أمن قومي تركي، غربي الفرات، وأقاموا فيدرالية "روج آفا" التي تتضمن عفرين ومنبج غرب الفرات، بالإضافة إلى إقليم الجزيرة، بين دجلة والفرات في أقصى الشمال السوري.
خيارات تركيا الضعيفة!
لا تبدو تركيا في وضع يسمح لها بالكثير من الخيارات، فهي لا تستطيع فرض عقوبات اقتصادية أو غلق الحدود مع إقليم كردستان العراق؛ لأن ذلك من شأنه أن يضعِف قدراتها على التعامل العسكري من آنٍ لآخر مع الأكراد الأتراك المتمركزين في جبل سنجار وما حوله في شمال العراق.
كما أن تركيا لا تستطيع فعليًّا وقف صادرات النفط الكردية عبر ميناء "جيهان"؛ لأن ذلك من شأنه توريط تركيا مع شركات النفط الكبرى، كما أن تركيا في حاجة إلى ما تحصل عليه من نفط كردي مسروق من بغداد.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن الموقف يبدو خطيرًا؛ حيث تتضاءل خيارات العمل المسلح المنفرد ضد الإقليم؛ حيث الأكراد في شمال العراق قوة عسكرية كبيرة لا يمكن هزيمتها بسهولة، وهي القوة الرئيسية التي كانت الفيصل في تحرير الموصل من قبضة "داعش".
كما أن أي مساس بهم في ظرف كهذا، خطوة مهمة على طريق تنفيذ مشروع الحلم الكردي؛ سوف يُسمع صداه في تركيا في صورة تفجيرات وأعمال عنف، وكذلك ضد القوات التركية الموجودة في شمال سوريا.
كما أن هناك تساؤلاً شديد الأهمية: ما هو هدف التدخل العسكري التركي في شمال العراق؟!.. قد تحقق تركيا من خلال جيشها القوي نتيجة ما في المجال العسكري في البداية؛ لكن سياسيًّا؛ لن يمكنها المكوث هناك طويلاً أو احتلال الإقليم بالكامل، وإلا أدخلها هذا في أزمة كبرى.
كما لا يمكن للأتراك الركون للضغوط الدولية في هذا الأمر؛ فالأمريكيون منافقون كالعادة، وساهموا مع اللوبي الصهيوني بالمال والسلاح، حتى وصل المشروع الكردي إلى هذه المرحلة، ولا يمكن تصور أصلاً أن يقدِم البارزاني على هذه الخطوة من دون ضمانات من قوة عظمى في ظل أنه يعلم تمامًا أنه سوف يدخل صراعًا مع قوى إقليمية كبرى، مثل إيران وتركيا، بينما الموقف الدولي الوحيد المعارض حقيقة لهذا الأمر، وهو الموقف البريطاني، تبدو خياراته ضعيفة بدوره.
كما أن الإيرانيين لا يمكن بحال – برغم الاتصالات والزيارات المتبادلة على مستوى رئاسة أركان البلدَيْن – المغامرة بدخول حرب إقليمية جديدة في ظل الوضع في سوريا.
وفي الأخير؛ حدد أردوغان موعدًا لتقديم الرد التركي على الاستفتاء – لو تمَّ - باجتماع مجلس الأمن القومي التركي، والذي من المقرر أن ينعقد بين 22 إلى 27 سبتمبر الحالي.
كما أعلنت تركيا عن مناورات عسكرية في ولاية شرناق الحدودية مع إقليم كردستان العراق، ولكن لا يمكن فهم أن ذلك مقدمة لتدخل عسكري تدرك تركيا قبل غيرها أن أثمانه سوف تكون مرتفعة للغاية على أمنها القومي واستقرار الداخل التركي.
فلم يبقَ أمام تركيا سوى التعامل مع الموقف باعتباره أمرًا واقعًا، والعمل على تفادي فقط آثاره على كردستان تركيا المجاور!