كيف أضعف ترامب بلاده..
قراءة تحليلية لجولة تيلرسون للمنطقة!
تحليل: أحمد التلاوي اليقينقام وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون بجولة مؤخرًا، شملت دولاً عربية وإسلامية، بدأها من الرياض، واختتمها في بغداد، ولئن كان هناك ملمح رئيسي، ونتيجة مهمة لها؛ فإنها تؤكد على ما ذهبت إليه تحليلات سابقة في هذا الموضع، قالت بأن خريف التأثير الأمريكي على السياسة الدولة قد بدأ، أو على الأقل خلال عهد الرئيس الحالي؛ دونالد ترامب.
ولعل ترامب بطبيعته وسياساته "الخرقاء" بالمعيار الموضوعي، قد هيأ فرصة ممتازة لخصوم ومنافسي الولايات المتحدة في أقاليم العالم المختلفة، من أجل تحديها وإظهار ضعفها، مثلما فعل الروس والصينيين في شرق آسيا، خلال أزمة كوريا الشمالية وتجاربها النووية والصاروخية، والتي هددت فيها بيونج يانج بقصف أهداف أمريكية في المحيط الهادي، من دون أن تجرؤ واشنطن على الرد المتماثل الذي يتفق مع كونها القوة العظمى في عالم اليوم.
بل وواصلت كوريا الشمالية تجاربة الصاروخية والهيدروجينية، مدعومة بموقف روسي وصيني قوي، حتى بعد العقوبات التي فرضها عليها مجلس الأمن الدولي، لتكون هزيمة سياسية كاملة للأمريكيين، تسبب فيها ترامب الذي من المفترض أنه يدرك تمامًا – باعتبار أن بلاده هي بلد منشأ هذه اللعبة – أن لعبة "تشيكن جيم" لا تعني للخاسر سوى الخسارة الكاملة، وأن وضع خصمك في موضع لا تترك له معه أي مجال للحركة؛ إنما يعني أن ينفجر في وجهك.
وذات الموقف الذي ذكرناه في موضوع سابق عن أزمة كوريا الشمالية، وأن الهدف منها في الأصل، هو إضعاف تأثير الولايات المتحدة، وبالذات فيما يتعلق بقضية قدرتها على حماية حلفائها من أي تهديد؛ تكرر هذه المرة في الرياض وفي بغداد، بالرغم من أن الأمور تتعلق بقضايا مختلفة، مثل الأزمة مع قطر والنفوذ الإيراني السياسي والعسكري في العراق.
وقبل التطرق إلى جولة تيلرسون، وكيف أكدت مصداقية هذا التحليل؛ فإنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى حدث آخر يؤكد هذا الذي ذهبنا إليه.
ففي السابع عشر من أكتوبر؛ نشرت وكالة "رويترز" خبرًا مفاده أن مؤسسة القمح الأمريكية سوف تغلق مقرها في مصر بحلول مطلع ديسمبر المقبل، مع عدم وجود داعٍ للفرع، بعد اعتماد مصر على مزودين آخرين للقمح، مثل رومانيا وروسيا وأستراليا.
وفي اليوم التالي لنشر هذا الخبر؛ نشرت "روسيا اليوم" على موقعها الإليكتروني خبرًا مفاده أن القمح الروسي قد حل محل القمح الأمريكي في السوق المصرية.
وقبل هذه التطورات؛ يذكر الجميع كيف أن القاهرة قد قابلت بمنتهى اللا مبالاة قرار الكونجرس والخارجية الأمريكيَّيْن بشأن حجب بعض المنح المدنية والعسكرية التي كانت مقررة سلفًا إلى مصر، مما دفع بالرئيس الأمريكي للاتصال بنظيره المصري، عبد الفتاح السيسي، والتأكيد على محورية وأهمية دور مصر في المنطقة والحرب على الإرهاب، وأهمية العلاقات المصرية الأمريكية، مع إقرار حوالي 100 مليون دولار منح في مجال آخر بخلاف ما تم تأجيل صرفه.
والمدقق في التفاصيل؛ سوف يجد أن القاهرة لم تتخلَّ عن الولايات المتحدة في هذا المجال فحسب؛ إنما بنت بدائل أخرى مع روسيا والصين، وكذلك فرنسا وإيطاليا وألمانيا (أقطاب الاتحاد الأوروبي)، في مجالات أخرى، مثل التعاون الأمني والعسكري، وجذب الاستثمارات.
في هذا الإطار، قوبل تيلرسون بمواقف لم يتوقعها من جانب كلٍّ من الرياض وبغداد خلال جولته الأخيرة التي شملت زيارتَيْن غير معلنٍ عنها مسبقًا، لكل من أفغانستان والعراق.
حرج دبلوماسي وغياب معلوماتي!
ففيما يخص الأزمة بين قطر وكل من جيرانها الخليجيين ومصر؛ فإنه، وبالرغم من أنه أصدر مجموعة من التصريحات التي حاول فيها إظهار حجم التأثير الأمريكي، مثل أنه سوف يطلب من الرياض والدوحة وباقي عواصم الأزمة، أن تجلس إلى طاولة المفاوضات؛ إلا أنه فوجئ بالفعل – كما عبَّر بشكل دقيق في تصريحاته في الدوحة – من أن السعودية ليست على استعداد للحوار في الوقت الراهن، وعبَّر بخيبة أمل كبيرة، عن أنه حاول إلى تحريك الموقف في الرياض، وخصوصًا مع ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، الموقف؛ إلا أنه حصل على "ردود باردة" و"غير متوقعة" بحسب تعبير هيئة الإذاعة البريطانية خلال تغطيتها للحدث.
ويبدو أن تيلرسون قد جاء بفكرة خاطئة شديدة "الكلاسيكية" عن الأزمة القطرية، من تصوراتها أن "الهيبة" الأمريكية سوف تفعل فعلها، وأن القرار في يد الرياض، وكلاهما تصوران خاطئنا؛ فلم تعد واشنطن مُطاعَة كما في الماضي، مع ما فعلته إدارت جورج بوش الابن وباراك أوباما بأمن المنطقة واستقرارها الذي تم تمزيقه، بما في ذلك المجتمعات والحدود، وبشكل أسقط دولاً بالكامل.
كما أنه، وسبق وأن كتبنا في هذا الموضع من فترة ذات الشيء، أن قرار فض الأزمة مع قطر ليس قرارًا سعوديًّا خالصًا، وسبق للأمير محمد بن سلمان أن حاول أن يعزف منفردًا، وأن يحقق "اختراقًا" في الأزمة، يصب في مصلحة محاولاته المستميتة لترويج نفسه كصانع قرار قوي في المملكة، تمهيدًا للخطوة التالية، وهي توليه السلطة رسميًّا، وتنحية والده، وفق تقارير عدة.
فكان الاتصال "الغامض" بينه وبين أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، يوم الثامن من سبتمبر الماضي، والذي تم تداركه من جانب البلاط الملكي السعودي، ونقض ما رددته وكالة الأنباء القطرية "قنا"، حول "اتفاق على لقاء ثنائي من دون شروط مسبقة، لمعالجة الأزمة".
الأمر الآخر الذي لم يدركه تيلرسون في هذا الصدد، وهو يتحدث بخفَّة سياسية ودبلوماسية نسبية تتفق مع رئيس شركة نفط دولية، وليس رئيس دبلوماسية أكبر دولة في العالم؛ هو أن المقرر للأزمة القطرية أن تستمر – كما أكد عادل الجبير وزير الخارجية السعودي – لعام أو عامَيْن، وربما أكثر.
وهذا المجال الزمني مقصود من جانب أطراف الأزمة؛ حيث إنه يفقِد قطر أهم أسلحتها، وهو الأرصدة المتراكمة.
فحالة الحصار الجزئي والمقاطعة التي تفرضها الدول الأربع على قطر؛ أدت إلى تسييل قطر لنحو عشرين مليون دولار من أرصدتها في الخارج، وتراجع احتياطيها النقدي بنسب قُدِّرت بما بين 7 إلى 11 بالمائة.
ويعود ذلك إلى سوء الحسابات السياسية للدوحة في الأزمة؛ حيث إنها بالغت في الإنفاق على احتياجاتها الضرورية ودفعت أضعافًا مضاعفة في السوق العالمية للسلع، وكذلك لشركات النقل لتعويض غلق المجالات الجوية للدول الجوار الخليجي في وجهها، وكذلك معبر "سلوى" البري مع السعودية – المعبر الوحيد البري لقطر مع العالم الخارجي – وكذلك فقدانها ميناء جبل علي الذي كان إستراتيجيًّا في حركة السلع الواردة إلى قطر.
رافق ذلك ارتفاع كلفة التأمين على النقل في ظل تقارير تواترت عن احتمالات تدخل عسكري سعودي في قطر على غرار ما تم مع البحرين في فبراير ومارس 2011م، ضد الانتفاضة الشيعية هناك.
وهدفت الدوحة من وراء ذلك إلى التأكيد على أنها تجاوزت الأزمة، وأنها ليست بحاجة إلى الدول المقاطِعة، وكذلك حماية الروح المعنوية للداخل القطري.
في المقابل لم تسعِف الإجراءات التي تبنتها مع كلٍّ من تركيا وإيران في تعويض البديل الخليجي القريب والإستراتيجي في واقع الأمر؛ حيث إن غالبية مواد البناء التي لا يمكن شحنها من موانئ تركيا أو إيران إلى قطر مباشرة من دون تكلفة مرتفعة، وكذلك المواد الغذائية الأساسية؛ كلها كانت تأتي من جبل علي وعبر معبر "سلوى".
كما أنفقت الدوحة الكثير على الدعاية السياسية، أو بمعنىً أدق الرشاوى السياسية للدول الغربية لكسب موقفها لصالحها في الأزمة، ومن بين ذلك ضخ استثمارات تقدَّر بالمليارات في قطاعات السلاح والعقارات والرياضة، في الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبية أخرى.
وكان أمل الدوحة أن تنتهي الأزمة سريعًا وهو تقدير ثبت أنه كان خاطئًا؛ حيث إن ذلك كان منذ البداية هو هدف الدول المقاطِعة؛ حيث إن مواردها المالية هي أكبر عنصر مساعد لها في تمرير سياساتها التي تعترض عليها الدول الأربع الرئيسية المقاطِعة لها.
ويشمل ذلك تمويل جماعات الإسلام السياسي، والجماعات "الجهادية" التي تحمل السلاح في ليبيا، وفي مصر، ودول أخرى، أو تمويل أنشطة إعلامية هدامة من وجهة نظر الدول الأربع، وعلى رأسها شبكة "الجزيرة" التي مارست أنشطة استخبارية في مصر بالذات، وكانت وراء التسريبات التي قامت بها قنوات إخوانية في تركيا، مثل "مكملين" وفق معلومات حصلت عليها الموقع من مصادر هناك.
كما أن المال السياسي القطري مارس أكبر الأدوار في تغطية مواقف الدوحة من جهة، وحشد منظمات حقوقية وحكومات وبرلمانات، وغير ذلك من المؤسسات، في الغرب، وخصوصًا في بريطانيا، ضد الدول الأربع التي تقود حملة المقاطعة ضد الدوحة.
وبالفعل؛ فإن الأرقام الواردة من قطر؛ تقول بأن هذه السياسة ناجحة؛ ففي يوليو الماضي كانت الاحتياطات النقدية القطرية تقدَّر بحوالي 340 مليار دولار، 40 مليارًا في البنك المركزي القطري، و300 مليار في هيئة الاستثمار القطرية، ولو تم إضافة عشرة مليارات تم تسييلها في يونيو؛ فإن ذلك يعني أنها كانت في يونيو؛ مبدئ الأزمة، لديها 350 مليار دولار.
وفي منتصف سبتمبر الماضي، أصدرت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني تقريرًا ذكرت فيه أن احتياطي قطر النقدي قد تآكل بمقدار 38 مليار دولار خلال شهرَيْ يونيو ويوليو الماضيين فقط، لوقف الضغوط على العملة القطرية، واستعواض السلع الإستراتيجية، مع ضخ المزيد من الأموال إلى بنوكها لتعويض هروب نحو 30 مليار دولار خرجت من النظام المصرفي في هذَيْن الشهرَيْن فحسب.
أي أن قطر في شهرين فحسب؛ خسرت حوالي 11 بالمائة من الاحتياطي النقدي الخاص بها، وهو ما لا يشمل أرقام أغسطس أو سبتمبر.
تيلرسون في بغداد.. تهديدات وتراجع!
كل هذا وغيره لم يدركه تيلرسون الذي فوجئ في بغداد بموقف مماثل، وربما أكثر إحراجًا للولايات المتحدة وأشد أثرًا على مصالحها، سواء من مكتب رئيس الوزراء حيدر العبادي، أو قادة فصائل شيعية مسلحة، من بينهم قاسم الأعرجي، قائد فصائل الحشد الشعبي التي باتت رسميًّا الآن جزءًا من الجيش العراقي.
وبدأت القصة خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده تيلرسون في الدوحة، يوم 23 أكتوبر، عندما شن هجومًا عنيفًا على التدخلات الإيرانية و"ميليشياتها" في العراق، ودعوته إلى خروج هذه "الميليشيات" من العراق.
الرد كان من جانب مكتب العبادي، في صورة بيان أكد على أهمية دور الفصائل الشيعية المسلحة في هزيمة "داعش" – وهو الحدث الذي كان يشيد به تيلرسون عندما تحدث عن ذلك الأمر – وأن الحشد الشعبي على وجه الخصوص، هو جزء لا يتجزأ من القوات النظامية العراقية، وأن العراق يسعى إلى إعادة توحيد صفوفه والعودة إلى المجتمع الدولي من دون إثارة أية مشاكل.
أما قاسم الأعرجي؛ فقد قال ما هو أكثر؛ إن الولايات المتحدة هي التي عليها أن تستعد لسحب قواتها الموجودة في العراق، وعددها خمسة آلاف جندي ومستشار.
ولذلك، وعندما وصل تيلرسون إلى العراق، في منتهى جولته الحالية في العالم العربي والإسلامي، لم يأتِ إطلاقًا على ذكر هذا الملف، أو موضوع إيران – التي ردت بدورها على تصريحاته في الدوحة، وقالت إنه لولا الدعم الإيراني لكانت "داعش" تسيطر على بغداد ودمشق – واكتفى تيلرسون بالإشادة "الحماسية" الطابع بـ"الانتصار الذي حققته الحكومة العراقية" على تنظيم "داعش"، في موقف ضعف واضح لاحظته وسائل الإعلام الأمريكية والغربية التي تتصيَّد لترامب أخطائه.
إن كل هذه التطورات تثبت أن الولايات المتحدة إنما صنعت هيبتها من ضعف الأطراف التي تواجهها، وضعف بعض الأنظمة والحكومات السابقة والحالية في المنطقة، وأنه – وفق النماذج حالة رصدناها في أكثر من موضع هنا – متى استجمعت القوى الإقليمية والدولية الأخرى لعناصر قوتها، ووحدت مواقفها؛ فإن واشنطن تصبح – فعليًّا – نمرًا من ورق انكشف أمره؛ فلم يعد يخشاه أحدٌ!..