اليقين
الأخبار

أزمة سعد الحريري.. هل تمثل فشلاً جديدًا للرياض؟!

سعد الحريري ومحمد بن سلمان
سعد الحريري ومحمد بن سلمان

ينتظر العالم أجمع، وبشغفٍ كبير، ومن دون أدنى مبالغة، ترتيبات الزيارة المزمعة لرئيس الحكومة اللبنانية "المستقيل"، سعد الحريري، إلى فرنسا.

وتنبع أهمية الزيارة التي تمت يوم السبت، 18 نوفمبر؛ من أنها كانت ذات دلالة كبيرة للغاية، في حقيقة الوضع الحالي للحريري الابن.

الرئيس اللبناني، ميشال عون، أشار إلى أن الحريري لن يعود من باريس إلى الرياض، وإنما إلى بيروت؛ حيث سوف يوضح موقفه، ولو شاء أن يستقيل؛ فليفعل، ولكن وفق القواعد الدستورية المرعية، كما طالب بذلك قطاع عريض من الأحزاب والقوى السياسية اللبنانية، وكذلك الأوساط الشعبية.

واللافت أنه من بين هؤلاء المطالبين بعودة الحريري إلى بيروت أولاً للبتِّ في استقالته، فرقاء، خاضوا جبهات الحرب الأهلية اللبنانية قبل عقود طويلة، ضد بعضهم البعض، مثل "حزب الله" اللبناني، وكثيرون داخل "تيار المستقبل" الذي يقوده الحريري نفسه (سُنِّي)، بالإضافة إلى حزب الكتائب (ماروني) وتيار سمير جعجع (ماروني).

ولتدقيق الأمور وتحديدها؛ فإن الأمر لا يتعلق بقناعات هذه التيارات المختلفة والمتباينة في مواقفها من أصول الأزمة، مثل الموقف من إيران، ومن الحرب في سوريا وتدخل "حزب الله" فيها؛ حيث إن الكثيرين في لبنان وخارجها، يرون ما رآه الحريري، وتراه حتى الرياض، فيما يتعلق بنقطة التدخلات الإيرانية في شؤون الدول العربية، والدعم الذي يقدمه "حزب الله" للنظام السوري، وللحوثيين في اليمن.

أي أن الكثير من الأطراف اللبنانية، من خارج "تيار المستقبل"؛ ترى ما قاله الحريري في خطاب استقالته قبل نحو أسبوعَيْن؛ من أن هناك تدخلات خارجية في لبنان، وأن سلطة الدولة لا تشمل قوة مثل "حزب الله"، وهذا يفت في عضد الدولة، ويحمل لبنان الضعيف الصغير؛ مسؤوليات وأعباء لا طاقة له بها، كما حدث في عرسال، وفي نهر البارد، وفي مناطق أخرى من البلاد، ويهدد باستعادة أجواء ما قبل أبريل 1975م البغيضة.

وهذا ليس قولاً مرسلاً؛ فإنه بتحليل الموقف في لبنان الآن؛ سوف نجد أنه يماثل – سياسيًّا وليس أمنيًّا بالضبط – أجواء ما قبل اندلاع الحرب الأهلية في ذلك التاريخ، مع تبدُّل أطراف الصورة فحسب؛ حيث "حزب الله" يحل محل منظمة التحرير الفلسطينية، وحيث السُّنَّة من حلفاء السعودية؛ يحلون محل الموارنة في ذلك الحين.

فالمشكلة تكمن بالأساس في وجوده في السعودية، واستقالته بالصورة التي تمت، والتي لا يوجد لها أية سابقة في تاريخ الدولة القومية، في العالم العربي وخارجه.

ففي حقيقة الأمر؛ الحريري أحرج الدولة اللبنانية بالكامل، حتى تياره؛ الذي رفض كل ما فعله الحريري وتضامن مع مطالب عون و"حزب الله" وغيرهما، بضرورة عودته، باستثناء فؤاد السنيورة ودائرة ضيقة للغاية حول الحريري.

وحتى بهاء شقيقه، رفض خيارًا سعوديًّا، بخلافه أخيه في منصبه في رئاسة حكومة لبنان، وقيادة "تيار المستقبل".

فعندما تكلم الحريري عن تدخلات إيرانية في الشؤون اللبنانية، وعن مخاطر تدخُّل "حزب الله" في سوريا على لبنان؛ من المفترض أنه – كسياسي أمين على مصالح بلاده – أن يتكلم عن كل صور التدخلات في الشؤون اللبنانية، وعن مخاطر التدخلات السعودية المعروفة والموثقة في الحرب في سوريا، على الأمن القومي اللبناني.

فمع تسليم غالبية المتابعين بالحقائق التي قالها الحريري عن السياسات الإيرانية في المنطقة، وتدخلات "حزب الله"، ومخاطرها؛ كان ينبغي عليه أن يتمتع بالحيادية؛ لأن الأثر السعودي في سوريا، وفي لبنان، وفي اليمن، مماثل وفق كل المراقبين.

الأمر الآخر؛ هو أنه عندما تكلم عن "مؤامرة" لاغتياله في لبنان؛ هو وضع الدولة اللبنانية كلها، وخصوصًا أجهزتها الأمنية، ولاسيما استخبارات الجيش اللبناني، في موضع مساءلة؛ حيث هو رئيس الحكومة، وحمايته من أهم الواجبات الدستورية لهذه الأجهزة.

ولذلك سارعت قيادات قوى الأمن الداخلي والجيش على الفور، بنفي رصدها لأي شيء في هذا الصدد.

الأمر الثالث؛ هو أن خطوة الحريري – أو بمعنىً أدق – خطوة الرياض التي فرضتها على الحريري – قد أدت إلى خسارة لبنان لمكاسب كبيرة كان قد حققها على المستوى المؤسسي والتماسك السياسي الداخلي، في سنوات الأزمة السورية التي كان من بين حسناتها القليلة؛ أنها رفعت الوصاية السورية عن المناصب الكبرى في لبنان.

ومن بين ما هددته هذه الخطوة، الإنجاز الكبير الذي حققته لبنان في 2017م، بتشاركية "حزب الله" وتيار 8 أذار، مع قوى الرابع عشر من آذار، أو ما يعرف بالموالاة، ونتج عنها انتخاب عون رئيسًا للبلاد، بعد فراغ رئاسي استمر منذ مايو 2014م، وحتى أكتوبر 2016م.

كذلك هددت التطور الكبير الذي حدث للمؤسسة العسكرية والأمنية اللبنانية، التي استطاعت الصمود أمام البُعد الطائفي جزئيًّا للحرب في سوريا؛ حيث تحولت إلى مؤسسة محترفة، واجهت الكثير من المزالق باحترافية، مثل أزمة عرسال كما تقدم، والاضطرابات التي وقعت في صيدا، مع قوى سلفية جهادية، مثل جماعة أحمد الأسير، وغيرها من المواقف التي أوضحت أن الجيش اللبناني ومؤسساته ومؤسسات لبنان الأمنية؛ ليست هي التي كانت قبل أربعة عقود عندما انقسمت على نفسها طائفيًّا خلال الحرب الأهلية.

وحتى عندما قررت الرياض قطع مساعداتها العسكرية عن الجيش اللبناني، خشية وقوع السلاح السعودي أو المموَّل سعوديًّا بمعنىَ أدق، في قبضة "حزب الله"، وكان ذلك في فبراير 2016م؛ تعامل الجيش اللبناني مع الموقف بمنطق المؤسسة العسكرية الاحترافية؛ حيث تقبل الأمر من دون الخوض في السياسة.

كل هذه الأمور؛ مكتسبات؛ لا تريد أية أطراف في لبنان، أو خارجه، في الإقليم والعالم الخارجي؛ التفريط فيها، في ظل أزمة أمنية مستحكمة تطال العالم بالكامل، وليست بحاجة للمزيد.

لذلك يمكن فهم الموقف الفرنسي الحازم والذي كان حاسمًا بالفعل للأزمة؛ حيث مارست فرنسا كل فنون الضغط الدبلوماسي، بما في ذلك مسألة دعوة الحريري إلى باريس.

فالعالم لم يتقنع بما وصفه متابعون بـ"تمثيلية" زيارة الحريري إلى الإمارات، للتدليل على أنه حرٌّ وليس محتجزًا في السعودية، وخصوصًا في ظل ما جرى في كواليس مقابلة الحريري مع قناة "المستقبل" التابعة له، والذي بدد أية شكوك فيما قاله حسن نصر الله، الأمين لـ"حزب الله"، في اليومَيْن التاليَيْن لـ"استقالة" الحريري؛ من أنه بالفعل محتجز في السعودية رغمًا عن إرادته.

وبالفعل؛ كان لذلك كله صدىً كبيرًا في مواقف الداخل اللبناني، حتى بعيدًا عن تحالف عون / "حزب الله" المُتَسجَد؛ في حشد الرأي العام لرفض استقالة الحريري، والتمسك به كرئيس للوزراء لحين عودته ومناقشة الأمر، والبت في استقالته لو أصرَّ عليها، ولكن ليكن ذلك في بيروت، وليس من الرياض.

خسائر الرياض

في حقيقة الأمر؛ فإنه يبدو أن الإجراء الخاص بـ"استضافة" الحريري في الرياض، لتفجير أزمة أسفل أرجُل "حزب الله" في الداخل اللبناني، لتعطيله عن التدخل في سوريا واليمن – بالفعل هناك خبراء صواريخ من الحزب في اليمن – وبشكل موضوعي؛ كان إجراءً متعجلاً، وغير مدروس.

ويبدو كذلك – وبشكل موضوعي أيضًا – كان قرارًا انفعاليًّا، على إثر الصاروخ الذي انطلق على الرياض من اليمن قبل "استقالة" الحريري بيوم واحد؛ حيث إن التطورات التي تلت أزمة الحريري؛ كانت سوف تكون متوقعة؛ لو أن القرار مدروسًا؛ حيث قال بها – بهذه التطورات – الكثير من المراقبين ووسائل الإعلام الدولية، فور تفجير الحريري لقنبلته.

فما حققته لبنان من استقرار في ظل عواصف المنطقة؛ لن يفرط فيه أحد، كما أن "حزب الله" وأمينه العام؛ ليسا من عينة القوى السياسية والساسة الذين ترتجف أقدامهم وقت الأزمات المفاجئة، ودرس احتلال الحزب لبيروت على إثر أزمة شبكة اتصالات الحزب، في مايو 2008م؛ لا تزال ماثلة أمام كل الأطراف في داخل لبنان، حتى ولو أضعفت الحزب الحرب في سوريا، وخسارته لعدد كبير من كوادره ومقاتليه هناك.

كما أن الأمر ارتبط بنقطة شديدة الأهمية؛ لم يكن ليتسامح المجتمع الدولي فيها؛ حيث ما جرى – بعد ثبوته فعليًّا في "فيديو" لقاء الحريري مع قناة "المستقبل" – بالفعل سابقة قانونية وسياسية غير معهودة في القانون الدولي والسياسة العالمية.

والأمر – لتقريب الصورة – أقرب إلى مسألة احتلال دولة لجارتها، وضمها لها قانونيًّا، مثلما حصل في أزمة احتلال العراق للكويت في العامَيْن 1990م/1991م؛ حيث كان ذلك سابقة غير معروفة في السياسة العالمية؛ فكان التدخُّل الدولي على الصورة التي جرت لمنع تكرار هذه الحالة.

ومن ثَمَّ؛ يرى مراقبون كُثُر؛ أن الرياض قد هزمت نفسها بهذه الخطوة غير المدروسة، والتي تضاف إلى هزيمتها التي يراها عيان العالم كله في اليمن، بالإضافة إلى دخول الأزمة مع قطر إلى مرحلة الركود، من دون تحقيق أيٍّ من مطالب الرياض من الدوحة.

وبالتالي؛ فإن الرياض لم تجد أمامها بديلاً سوى التصعيد الخطير الذي قامت به في اليمن؛ بغلق كل مجاله الجوي، ومنافذه البحرية والبرية، لتحقيق نصر ولو مؤقت أو "رد كرامة" أو "حفظ ماء الوجه" بعد ما جرى، وهو ما جلب لها سخطًا دوليًّا متصاعدًا، طال حتى حلفاءها الذين يمدون الرياض بالسلاح، في لندن، والأمم المتحدة ذاتها، التي وصفت مع مؤسسات دولية أخرى، غلق كافة مداخل اليمن بجريمة الحرب.

ولكن – وبشكل موضوعي كذلك – فإن هذه الإجراءات لن تقي السعودية المخاطر الأمنية المترتبة على طول أمد الحرب؛ حيث الترسانة الصاروخية للجيش اليمني السابق؛ لا تزال قائمة وبكل قوتها، ويحظى الحوثيون بدعم كبير من خبراء إيرانيين ومن "حزب الله".

وبالتالي؛ فإن الرياض مدعوة إلى مراجعة نفسها قبل أن تقدِم على أية خطوة أخرى إقليميًّا لتفادي المزيد من الخسائر!

سعد الحريري الرياض باريس

الأخبار