اليقين
الأخبار

لماذا تدعم تركيا قطر في الأزمة الخليجية؟

اليقين

بالرغم من أن الموقف التركي في بداية الأزمة القطرية مع الدول الخليجية الثلاث، السعودية والإمارات والبحرين، بالإضافة إلى مصر؛ لم يكن واضحًا في حدود دعمه أو تبنيه لموقف أحد طرفَيْ الأزمة؛ إلا أنه، وفي الأسبوعَيْن التاليَيْن لاندلاع الأزمة، في الخامس من يونيو الماضي؛ أخذ الموقف التركي شكلاً أكثر وضوحًا في دعم الموقف القطري، بمختلف الآليات، السياسية والعسكرية والاقتصادية.

وكانت تركيا في البداية، لا ترغب في دعم صريح للدوحة، حليفتها الأساسية فيما يُعرَف بالربيع العربي، ودعم جماعات ما يُعرَف بـ”الإسلام السياسي”؛ وخصوصًا الإخوان المسلمين، بسبب المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية التركية مع دول الأزمة الأخرى في الخليج، وخصوصًا الإمارات والسعودية.

إضافة إلى ذلك، رأت القيادة السياسية التركية أن أي تبنٍّ صريح لموقف ما من الأزمة لصالح هذا الطرف أو ذاك، سوف يقود إلى خسارة تركية صريحة للطرف الآخر، بينما تركيا تعاني من عزلة حقيقية بفعل تطورات الحرب في سوريا، والأحداث السياسية في العراق، منذ معركة الموصل وحتى الآن، بجانب الأزمة المتفاقمة في العلاقات مع أوروبا.

وفي هذا الإطار؛ تتناول هذه الورقة؛ معالم من السياسات التركية في الأزمة الخليجية القطرية، وأسباب وضوح الدعم التركي لقطر، بشكل يتجاوز قصة المصالح الاقتصادية والأمنية..

أولاً: جذور الموقف التركي.. السياسات الأردوغانية وأزمة عزلة تركيا:

قد يكون من المستغرب القول، إن السياسات الروسية في الملف السوري؛ تُعتبر من بين أهم العوامل التي دفعت تركيا إلى الدعم الصريح للموقف القطري على حساب علاقاتها الأخرى مع دول الخليج التي تناصب الدوحة العداء.

ويمكن تحديد نقطة زمنية مهمة في هذا الصدد، وهي توقيت اندلاع الأزمة في العلاقات بين موسكو وأنقرة، بعد إسقاط القوات الجوية التركية لمقاتلة روسية من طراز “سوخوي”، فوق الأجواء السورية، في نوفمبر 2015م.

أدت الأزمة إلى عقوبات وضغوط روسية كبرى على تركيا، مسَّت مصالح حيوية تركية، وخصوصًا في المجال الاقتصادي، مما اضطر أنقرة إلى تقديم تنازلات كبيرة لروسيا، وكانت سوريا المجال الأهم لهذه التنازلات؛ حيث حوَّلت بموجبها تركيا سياساتها إزاء الأزمة السورية بشكل كبير؛ حقق انتصارات ونجاحات عدة في صالح النظام السوري.

ومن بين أبرز آثار ذلك، هو نجاح موسكو والنظام السوري، وبطبيعة الحال حلفائهما على الأرض، وعلى رأسهم إيران، في معارك حلب وحمص واستعادة النظام السوري للسيطرة على غالبية المدن السورية الرئيسية، وتجميع غالبية فصائل المعارضة السورية المسلحة، في إدلب شمال غرب سوريا، مع رفع أنقرة لدعمها العسكري عن الكثير من هذه الفصائل.

كذلك كان لمجموعة من التطورات السياسية والإعلامية التي أحاطت بالدور التركي في الأزمة السورية، وفي أزمات ودول المنطقة الأخرى، مثل مصر وليبيا، دورها في تكريس حالة العزلة التي بدأت تتعرض لها تركيا بفعل ردات الفعل إزاء سياسات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والتي أخذت طابعًا سلطانيًّا أو إمبراطوريًّا، وخصوصًا في مناطق نفوذ قديمة لتركيا، في شمال العراق وسوريا.

وكانت التصريحات المتتالية من جانب أردوغان عن “تركيا العثمانية” مصدر قلق كبير في هذا الصدد، بالنسبة لأطراف عدة في الإقليم.

لذلك جوبه بموقف قوي من رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، فيما يتعلق بمسألة مشاركة تركيا العسكرية في معركة تحرير الموصل من قبضة تنظيم الدولة “داعش”؛ حيث كان الرفض العراقي قاطعًا فيما يتعلق بمشاركة القوات التركية المرابطة في معسكر بعشيقة، شمال الموصل، في المعركة، في ظل أحاديث تركية عدة عن تبعية مناطق شمال العراق، ومن شمال سوريا، لتركيا قديمًا.

وساهم من عزلة تركيا؛ السياسات الهجومية التي تبناها أردوغان إزاء الاتحاد الأوروبي، والتي تنامت في مرحلة ما بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي وقعت في يوليو 2016م، عندما رأت تركيا أن “تعاطفًا” إن لم يكن “تواطؤًا” كذلك، من جانب الأوروبيين والأمريكيين، مع المحاولة التي استهدفت حياة أردوغان ذاته.

ويستند الدعم التركي لقطر في هذا الإطار إلى أمرَيْن أو باعثَيْن مهمَّيْن.

الباعث الأول؛ هو أن قطر بعد أن كانت شريكًا رئيسيًّا لأنقرة في سياساتها الإقليمية؛ فإنها تحولت لأنْ أصبحت في ظل هكذا ظروف عزلة تواجهها تركيا؛ هي الشريك الوحيد تقريبًا.

وازدادت أهمية هذا المنفذ السياسي المهم للسياسة التركية، في ظل تحركات مصرية وإماراتية ناجحة، حاصرت النفوذ التركي في مناطق عدة من المنطقة العربية والشرق الأوسط، وأثرت كثيرًا على مصالح حيوية تركية.

وكان أهم هذه التحركات، هو ما قامت به القاهرة في اتجاهَيْن.

الأول، هو محاصرة النفوذ التركي في ألمانيا ووسط أوروبا، من خلال اتفاقيات أمنية وسياسية واقتصادية عدة مع ألمانيا، ساهمت فيها المخابرات العامة المصرية، أطلعت فيها الحكومة الألمانية على حقيقة أنشطة الجمعيات والمؤسسات التركية التابعة لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، في ألمانيا، بالتعاون مع مؤسسات تابعة لحركة “حماس” والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين.

ويمكن القول باطمئنان إن القاهرة قد نجحت في مفصل إستراتيجي مهم، فصل تركيا عن أوروبا بالكامل، في ظل الأهمية التي كانت تمثلها العلاقات الألمانية التركية في تحقيق التمدد التركي في وسط ثم غرب أوروبا بالتالي.

ومن نافلة القول إن ذلك أثَّر على ملف مهم من ملفات السياسة الخارجية التركية، كان أردوغان يأمل في أن يحقق فيه اختراق يدعم به تجربته، وهو ملف الانضمام للاتحاد الأوروبي.

ويكفي هنا للتدليل على الأزمة العميقة التي تواجه تركيا في هذا الأمر، الإشارة إلى تصريح وزير الخارجية الألماني، جابرييل زيجمار، الذي قال فيه إن تركيا لن تنضم للاتحاد الأوروبي أبدًا هي تحت حكم أردوغان.

وبطبيعة الحال؛ فإن دعاية المحور العربي الذي يضم مصر والسعودية والإمارات، بالإضافة إلى ما قامت به روسيا في هذا الصدد، خلال فترة أشهر أزمة السوخوي، قد أدى إلى انكشاف موقف تركيا في مسألة دعم الجماعات المسلحة في سوريا، بما في ذلك جماعات مصنفة إرهابية، مثل “داعش” و”النصرة”، بل وتبادل صفقات النفط والسلاح معها، وهو ما آذى الصورة الذهنية للحكومة التركية في أوروبا بالكامل، وزاد من عزلتها بالتالي.

الثاني، هو تهديد المصالح التركية في مكامن الغاز والطاقة في البحر المتوسط، من خلال سلسلة من الاتفاقيات مع دول خصمة لأنقرة، مثل اليونان وقبرص اليونانية، منحت كلاهما حقوق في مصادر الغاز في شرق المتوسط، والذي يُعتبر أحد الملفات المرشحة لأن تكون سببًا مهمًّا في نزاعات مستقبلية في المنطقة، مع ارتباطها بخصومات سياسية ومصالح اقتصادية كبرى لدول المنطقة.

وهنا نشير إلى أمر مهم في ذهنية الحكومة التركية في التحرك في الأزمة الراهنة، وهو أن قطر هي صاحبة ثالث أكبر احتياطي وثالث أكبر مصدِّر للغاز الطبيعي في العالم، بعد كل من روسيا وإيران على التوالي؛ حيث تستحوذ قطر على احتياطيات غاز تمثل نحو 14% من الاحتياطي العالمي المكتَشَف.

وغالبية الاحتياطي والإنتاج القطري يأتي من حقل الشمال العملاق، والذي كان له دور كبير في تحريك الموقف دوليًّا لمصلحة قطر في الأزمة الحالية، بفضل سياسة قطرية استغلت الشركات الكبرى العاملة في هذا القطاع، للضغط على حكوماتها، من أجل ممارسة ضغوط بدورها على دول المقاطعة الخليجية والعربية.

وهنا يكمن جانب مهم من أهمية قطر لتركيا، التي تعاني من عوزٍ في الغاز الطبيعي، وكان ذلك أحد أهم عوامل الضغط الروسي على تركيا؛ حيث روسيا هي أكبر مزوِّد بالغاز، لتركيا وأوروبا بالكامل.

الباعث الثاني، هو أنه لا يخفى على أحد، وهو ما تدركه أنقرة جيدًا، أنها هي الهدف المرشَّح بعد قطر، للتحالف الذي يضم أقطابًا عربية هي الأكبر في المنطقة، مثل مصر والسعودية والإمارات والأردن.

فمن البديهيات، أن العوامل الأصلية التي دفعت دول المقاطعة إلى مهاجمة قطر، منبتها الأصلي في تركيا؛ فمهما بلغ الدعم القطري للإخوان المسلمين، والإسلام السياسي، وما يُعرَف بثورات الربيع العربي؛ فإنه لن يبلغ أبدًا ما تقوم به تركيا، كفارق قدرات على الأقل.

وبالتالي؛ فإنه من البديهي أن تكون تركيا هي الهدف متى فرغ التحالف العربي من قطر، بل إن بعض المحللين يرى في أن استهداف قطر يهدف تركيا في الأصل، باعتبار أن قطع الذراع القطري؛ يضمن عدم قدرة تركيا على دعم القوى الساعية إلى تغيير الأنظمة الحالية في الدول الخصمة.

وبالفعل؛ فإنه من بين المطالب الثلاثة عشر الشهيرة التي قدمتها الدول الأربع المقاطعة لقطر، غلق القاعدة العسكرية التركية في قطر.

ثانيًا: اتجاهات الدعم التركي لقطر

في هذا الإطار؛ لم يتأخر الدعم التركي المباشر للدوحة كثيرًا. فبعد يومين فحسب من اندلاع الأزمة، أقر البرلمان التركي اتفاقية التعاون العسكري الموقَّعة بين الجانبَيْن التركي والقطري في العام 2017م، وبموجبه أرسلت تركيا دفعات من قواتها إلى هذه القاعدة، كما أجرت مناورات عسكرية مشتركة مع الدوحة.

بل إن هناك تقارير أشارت إلى تولِّي جنود أتراك مهام تامين على الحدود القطرية مع السعودية، في ظل تقارير في بداية الأزمة، ذكرت أنه من الممكن أن يحدث تدخل عسكري لإسقاط حكم الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في الدوحة.

وتعددت اتجاهات الدعم التركي لقطر؛ حيث شمل مواقف سياسية، من بينها تأكيد أردوغان خلال استقباله وزير الخارجية القطري في السادس من يوليو الماضي، على دعم تركيا الكامل لقطر قائلاً إن مطالب الدول الأربع المقاطِعة للدوحة “غير مقبولة”.

وشمل الدعم كذلك إرسال سفن مساعدات، مع افتتاح خط بحري مباشر بين قطر وتركيا، ضمن سلسلة خطوط شملت كلاًّ من باكستان وإيران، لتعويض الدوحة فقدانها لميناء جبل علي الإماراتي، بعد وقف حركة الطيران والملاحة القطرية في الأجواء والمياه الإقليمية لكلٍّ من الإمارات والبحرين والسعودية، ضمن الإجراءات العقابية التي قامت بها الدول الخليجية الثلاث ومصر، إزاء الدوحة منذ بداية الأزمة.

ومن الواضح أن الأتراك لا يعولون في هذا الصدد على أي تدخل أمريكي أو غربي لمعالجة الأزمة، وبالتالي؛ فإنهم نزلوا بثقلهم في الأزمة، وبات من الواضح أنهم لن يتراجعوا، مهما كان الثمن الاقتصادي الذي يمكن أن يدفعوه من مصالحهم مع الدول الخليجية الأخرى.

وتعود القناعة التركية في هذا الصدد، إلى نتائج الوساطة الأولى التي حاولها وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون في جولته التي قام بها في المنطقة، في يونيو الماضي، وكذلك وساطات دولية أخرى قامت بها دولٌ كبرى مثل ألمانيا وفرنسا.

فمن خلال جولات عدة لوزراء خارجية ومسؤولين من هذه الدول؛ بات من الواضح إصرار دول المقاطَعَة على موقفها، بينما الدول الكبرى تنأى بنفسها عن الأزمة، بانتظار تطوراتها، وإن مالت المواقف الدولية إلى التأكيد على ضرورة عدم التصعيد في الأزمة إلى مستوىً أكبر من ذلك.

ويرى مراقبون أن ذلك بجانب التدخل التركي المباشر بالفعل كان وراء وقف التصعيد، وثبات الإجراءات التي تبنتها الدول المقاطِعة لقطر عند هذا المستوى، وإن كانت هناك مؤشرات تقول بأن هناك إجرءات أخرى في المستوى السياسي تتم من وراء الكواليس؛ مثل إعداد خليفة محتمل للشيخ تميم، ممثلاً في الشيخ عبد الله بن علي آل ثاني، الذي برز في أزمة الحجاج القطريين مؤخرًا.

وفي الأخير؛ فإنه من الواضح أن التحالف القطري التركي قائم على أساس مصالح مشتركة تمثل مصالح أمن قومي لكلا البلدَيْن، كما أن كلاهما يضمن للآخر أن تستمر سياساته، ولا يكون منعزلاً عن السياق الإقليمي بشكل أكبر مما هو قائم الآن.

وبالتالي؛ فإنه من غير المنتَظَر أن تقف تركيا في منتصف الطريق، خصوصًا وأن العلاقات التركية الإماراتية على وجه الخصوص، تعاني في الأصل من أزمة مكتومة، بعد اتهامات تركية شبه رسمية لأبوظبي بدعم المحاولة الانقلابية التي تمت على أردوغان في يوليو 2016م.

ولكن يتبقى الإشارة إلى أنه، لئن كانت الإجراءات الخليجية العربية لم تطال تركيا الآن بشكل مباشر؛ فإنه من المرجح أن تطال هذه الإجراءات، تركيا، ولكن بعد تطور سياسي معين في الداخل التركي؛ يضعف أردوغان!..

 

المصدر: مركز سام للدراسات الاستراتيجية

الأخبار

آخر الأخبار