اليقين
الأخبار

ميركل.. الائتلاف الأخير تحت ظلال اليمين القومي المتطرف

المستشارة الألمانيا أنجيلا ميركل
المستشارة الألمانيا أنجيلا ميركل

فَتَحَتْ الانتخابات العامة الأخيرة التي جرت في ألمانيا، ونتائجها، الكثير من مجالات التحليل والحوار في ظل ما تمخضت عنه من آثار.

ومن بين أهم معالم هذه النتائج حصول حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تقوده المستشارة الأللمانية أنجيلا ميركل على 33 بالمائة فقط من إجمالي مقاعد "البوندستاج" الألماني (208 من 631 مقعدًا)، مقارنة مع 41.6 بالمائة في انتخابات 2013م (311 مقعدًا) بزيادة 72 مقعدًا عن انتخابات 2009م التي كانت قد حققت فيها ميركل وحزبها 238 مقعدًا بنسبة 37.8 بالمائة من إجمالي مقاعد "البوندستاج".

وبمقارنة هذا كله بانتخابات 2005م التي وصلت فيها ميركل أول مرة للمستشارية؛ سوف نجد أنها أدنى نتيجة حققها حزب ميركل في الانتخابات الأربع التي فاز بها؛ حيث كان قد حصل في انتخابات 2005م، على 222 مقعدًا، بنسبة تزيد قليلاً عن نتائج الانتخابات الأخيرة؛ 35.2 بالمائة.

إذًا هذه الانتخابات هي الأسوأ بالنسبة لميركل، وحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وكذلك تحالفاته.

فالحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي كان يقوده مارتن شولتز، شريك الائتلاف الحاكم السابق في ألمانيا - شولتز يرأس البرلمان الأوروبي منذ العام 2012م - ونافس ميركل في الانتخابات الأخيرة، وحل في المركز الثاني بإجمالي 22 بالمائة من مقاعد "البوندستاج" (139 مقعدًا)؛ أعلن أنه يفضل في الدورة الحالية للبرلمان، أن يقود المعارضة، رافضَا الدخول في أية مفاوضات لتشكيل الحكومة الائتلافية الجديدة في ألمانيا. 

صعود اليمين المتطرف وعقدة سياسات ميركل
تتجه ميركل إلى تشكيل ائتلاف من خلال التحالف مع حزب "الخُضْر"، الذى حاز على حوالى  تسعة بالمائة من الأصوات، وأعلن عن موافقته المبدأية على التفاوض لدخول ائتلاف مع الاتحاد الديمقراطي المسيحي، و"الحزب الديمقراطى الحر"، وهذا حقق 10.7 بالمائة في الانتخابات الأخيرة، وهو ما سُمِّيَ بـ"تحالف جامايكا"؛ حيث إن ألوان اعلام الأحزاب الثلاثة، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، و"الخُضْر"، و"الديمقراطي الحر"، تتشابه مع علم دولة جامايكا.

إلا أن المشكلة الرئيسية التي تواجه ميركل وحزبها، والحزب الآخر الصغير المتحالف معها، الاتحاد المسيحي الديمقراطي الذي يتمتع بنفوذ كبير في بافاريا، ليست هي شكل التحالف القادم، وإنما مشكلة صعود اليمين المتطرف ممثلاً في "حزب البديل من أجل ألمانيا"، والذي دخل بنسبة معتبرة في "البوندستاج" الجديد.

فالحزب اجتاز النسبة المقررة وفق الدستور الألماني لدخول "البوندستاج" (5 بالمائة) بكثير؛ حيث حقق وفق النتائج شبه النهائية للانتخابات ما بين 13 إلى 13.5 بالمائة من إجمالي المقاعد.

وهي المرة الأولى التي يستطيع فيها حزب من اليمين المتطرف في أوروبا كلها، تحقيق هذه النتيجة، وبهذا التأثير، في انتخابات بلد بحجم ألمانيا، تُعتبر قاطرة الاتحاد الأوروبي، وهي بطبيعة الحال سياسة لا تتماشى مع برنامج الحزب الذي يمجِّد من ألمانيا، ويعادي المهاجرين (يدخل المسلمون وكل من هو غير ألماني مسيحي في هذه الدائرة من المعاداة)، ويعارض فكرة اندماج ألمانيا (أو ذوبانها) في محيطها الأوروبي بهذه الصورة.

وبشكل عام؛ فإن للحزب أجندة تتعارض في مختلف الاتجاهات مع الأساسيات التي تستند إليها سياسات ميركل وحزبها وتحالفاتها من الأصل. 

اليمين المتطرف في أوروبا.. جردة سريعة
لا يُعتَبر هذا التطوُّر استثناء أو حدثًا مفاجئًا يخص الحالة الألمانية؛ حيث إن الأمر صار ظاهرة أوروبية عامة.

فلقد شهدت أوروبا في الأعوام الأخيرة أكثر من انتخابات عامة وبلدية، حقق فيها اليمين المتطرف بعض التقدم، ولكنه لم يستطع تجاوز حاجز المشاركة الرسمية في السلطة كما حدث في ألمانيا.

ففي الفترة بين العامَيْن 2015م و2017م حققت أحزاب مثل حزب "الحرية" الذي يقوده النائب العنصري جيرت فيلدرز، في هولندا، تقدمًا كبيرًا في الانتخابات البلدية والعامة عن الانتخابات التي سبقتها، فحزب فيلدرز حقق 20 بالمائة في أحدث انتخابات عامة في بلاده، وفي النمسا كاد أن يصل سميُّه، حزب "الحرية" كذلك، إلى منصب الرئاسة، من خلال مرشحه نوربرت هوفر، ولكن تمت إعادة الانتخابات في ديسمبر 2016م، وفاز بها مرشح حزب "الخُضْر" فان دير بيلين.

وذلك حدث في فرنسا أيضًا؛ حيث حقق حزب الجبهة الوطنية (أقصى اليمين) مكاسب عديدة في الانتخابات البلدية والعامة التي جرت بين عامَيْ 2015م و2017م، واستطاعت ماريان لوبان، زعيمة الحزب، تجاوز خصوم كبار من اليمين التقليدي واليسار، إلى المرحلة الثانية من الانتخابات، وهزمت أمام الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، بعد حصولها على نسبة وُصِفَتْ بغير المسبوقة، حوالي 33.5 بالمائة، بل وكادت أن تتجاوز ماكرون ذاته في الجولة الأولى من الانتخابات في مايو الماضي. 

عودة إلى الحالة الألمانية
بالعودة إلى الحالة الألمانية، وكما قلنا؛ فإن هذا التقدم لليمين المتطرف في ألمانيا، يشكل تحديًا كبيرًا لميركل في أكثر من اتجاه.

فهو أولاً سوف يتمكن من ترؤس لجان برلمانية مهمة، سواء في "البوندستاج" – مثل لجنة الميزانية، وهي من أكثر اللجان تأثيرًا على السياسات العامة للحكومة في المجال المالي والاقتصادي بشكل عام – أو في البرلمان الأوروبي؛ حيث ألمانيا لها أكبر عدد من المقاعد في البرلمان الأوروبي البالغين 751 مقعدًا، باعتبار أنها صاحبة أكبر كتلة سكانية بين دول الاتحاد الأوروبي.

كما أنه سوف يكون له الحق تمثيل ألمانيا، ضمن وفود برلين في المحافل الدولية، وأهمها الأمم المتحدة، وحلف شمال الأطلنطي "الناتو".

وأكبر ما يعارضه حزب "البديل من أجل ألمانيا"، في سياسات الحكومات التي قادتها ميركل، هو موضوع المهاجرين، وما يتصل بذلك في صدد هوية المجتمع الألماني، وهو ما يقود بدوره إلى الحديث عن موقف ألمانيا في الاتحاد الأوروبي.

وبالرغم من أن الحزب لن يكون في موضع مسؤولية؛ إلا أنه بالتأكيد في موضع تأثير سياسي، وبالفعل؛ فإن التساؤلات الآن بدأت في أوروبا حول مصير الاتحاد الأوروبي، إذا ما واصل اليمين المتطرف صعوده على هذا النحو في أكبر بلد أوروبي، وهو ألمانيا.

وهذه المخاوف لها أساس؛ فالحزب قال إن هذه الانتخابات سوف تكون اختبارًا أو تدريبًا للوصول إلى منصب المستشارية في الانتخابات القادمة في العام 2021م.

وفيما يخص الفترة الرابعة لميركل؛ يكفي في هذا الصدد، مطالعة بعض ما اعلنه الحزب حول أجندته وبرنامجه، ففي مارس من العام 2016م، قال بأنه سوف يعمل على إدراج منع الحجاب في الجامعات والمؤسسات العامة ضمن برنامجه الانتخابي، وكذلك منع ختان الأطفال المسلمين واليهود.

كما كثف اليمين القومي الألماني بشكل عام، من حملته ضد الهجرة والإسلام، وقاد ذلك إلى ضغوط على سياسات الحكومة الألمانية في مجال الهجرة، ويفتح المجال للتساؤل عن مصير الأجانب في بلاد لم تتعافى بعد من مرض النازية؛ حيث إن تيار النازيين الجدد بات من حقائق الحياة في المجتمع الألماني، وبكل تأكيد سوف يستفيد من هذا الصعود السياسي والانتخابي لـ"حزب البديل من أجل ألمانيا"، ومن المعروف أن هذا التيار يقف وراء غالبية الجرائم العنصرية التي تتم في داخل ألمانيا.

ولقد أدارت قيادة الحزب ممثلة في ألكسندر جولاند وأليس ويدل، حملة إعلامية وجماهيرية ممنهجة، من بينها مؤتمر صحفي عقدوه قبيل الانتخابات، بعنوان "الهجرة الإسلامية والجريمة"، ضد سياسات ميركل في مجال الهجرة، متشجعين في ذلك بسلسلة من الجرائم الإرهابية التي نفذها مسلمون ومهاجرون جدد في ألمانيا طيلة الثلاثة أعوام الماضية، في الموجة التي اجتاحت أوروبا كلها، ووجهوا على الإثر تهمة الخيانة لميركل، وبتعريض أمن البلاد للخطر.

ولقد لوحظ أثر هذه الأمور على شعارات الحملة النتخابية للحزب، فقد كان ملصقات تظهِر نساء على شاطئ بحر، وكُتب عليها "البرقع؟ نفضل البيكيني"، وملصق آخر به صورة لمركب يحمل مهاجرين، مع عبارة: "منكوبون؟ بل موجة الإجرام القادمة".

وكما تقدم فيما يخص مخططات الحزب للوصول إلى منصب المستشارية، فإن أليكس ويدل، قالت قبيل الانتخابات لصحيفة "فرانكفورتر روندشاو"، إن "هدف أي حزب سياسي بالتأكيد ليس المعارضة؛ إذ أن جميع نوابنا يجب أن يكتسبوا قدرات مهنية بسرعة كي نصبح قادرين على الحكم اعتبارًا من عام 2021".

فيما يخص الاتحاد الأوروبي؛ فالحزب معروف بأنه يمين قومي، وعندما تأسس في برلين، في فبراير من العام 2013م، كان ذلك كرد فعل على سياسة "إنقاذ اليورو" بعد سلسلة تراجعاته في تلك الفترة أمام الدولار الأمريكي والجنيه الإسترليني.

وكانت نقطة تحوله الرئيسية من اليمين إلى أقصى اليمين، انتخابات قيادة الحزب التي جرت في يوليو من العام 2015م؛ حيث فازت القيادة الحالية على الجناح الجناح الليبرالي نسبيًّا داخل الحزب، وهو بدوره سوف يكون له انعكاسات جمَّة على ألمانيا في الفترة المقبلة في سياسات ميركل الاقتصادية ذات الطابع الانفتاحي. 

إسرائيل وعلاقات ألمانيا الخارجية
تمتد التحديات التي تواجه ميركل في هذا الموقف أيضًا إلى سياسات بلادها الخارجية وعلاقاتها الدولية بشكل عام، وخصوصًا في نقطة شديدة الحساسية مثل إسرائيل.

فتاريخ ألمانيا النازية مع اليهود في أوروبا، معروف، ولا تزال عقدته لدى اليهود، وإسرائيل بطبيعة الحال تمثلهم في كل أنحاء العالم، وموقف اليمين الألماني المتطرف من اليهود واضح ومعلن كما تقدَّم؛ حيث إن أجندة "حزب البديل من أجل ألمانيا"، تضع اليهود مع المسلمين والأجانب في سلة واحدة.

وإسرائيل لم تخفي مشاعرها في هذا الصدد، فرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، عبَّر صراحةً في مكالمته مع ميركل لتهنئتها بفوزها الأخير، عن قلقه إزاء ما وصفه بـ"تزايد معاداة السامية الذي سُجِّل في السنوات الماضية من جانب عناصر سياسية" في ألمانيا، وذكر نتنياهو هنا أمرَيْن، الاول إنكار المحرقة اليهودية على أيدي النازي خلال الحرب العالمية الثانية، وإنكار المسؤولية الألمانية عن ارتكابها.

كما أن الصحف الإسرائيلية ما فتئت تتناول هذا الحديث بدرجة اهتمام توازي بعض قضايا الشأنين الفلسطيني والسوري ذاتهما، وهما الأكثر قربًا والتصاقًا بمصالح الأمن القومي الإسرائيلي.

كما أن مصادر الأخبار الدولية حفلت بتقارير من هذا القبيل حول ردود أفعال اليهود وإسرائيل على ذلك الأمر.

فمثلاً نقلت وكالة الصحافة الفرنسية "أ. ف. ب" شهادات ليهود ناجين من المحرقة النازية، أشاروا فيها لانطباعات سلبية حول التقدم الذي حققه "حزب البديل من أجل ألمانيا".

ومن بين هؤلاء بيرث باديهي (86 عامًا)، وهي يهودية من أصل ألماني، اختبأت لدى مجموعة من الفلاحين الفرنسيين خلال  الحرب العالمية الثانية، والتي قالت إنها "مصدومة للغاية" و"تشعر بالخوف" على أوروبا".

وأضافت: "هذا مثل سرطان ينتشر، من الصادم أن هذا يحدث في ألمانيا (..) أتذكر خوفي عندما كنت طفلة وصادفت الجنود الألمان. فكرت بذلك مرة أخرى عندما سمعت بنتيجة هذا الحزب".

وكذلك هناك شاؤول أورين، وهو من الناجين من المحرقة النازية، ويعيش حاليًا في إسرائيل، منذ العام 1968م، وقال: "لدينا عدو في ألمانيا. أشعر بالقلق ولكن ليس بإمكاننا (في إسرائيل) القيام بشيء لمنع هذه الأمور من الحدوث في أوروبا".

المؤسسات اليهودية والصهيونية العالمية، كان لها ردود فعل مماثلة؛ فقد اعتبر المؤتمر اليهودي العالمي، الحزب "حركة رجعية مشينة تذكر بمساوىء الماضي"، بينما قال المجلس المركزي لليهود في ألمانيا، إن ألمانيا "تواجه أكبر تحدٍّ منذ ولادة الجمهورية الفيدرالية عام 1949 مع دخول حزب يتقبل في صفوفه أفكار اليمين المتطرف ويحط من قدر الأقليات".

ولم يختلف الوضع في إسرائيل؛ فالنائب السابق عن حزب "العمل"، ووزير الدفاع الأسبق؛ عامير بيريتس، قال على حسابه على موقع تويتر: "يوم أسود للديمقراطية الألمانية مع دخول حزب عنصري ومعاد للسامية إلى البوندستاج".

بينما أشارت صحيفة "يسرائيل هايوم" العبرية، إلى نقطة تصويت النازيين الجدد للحزب.

فيما قال السفير الإسرائيلي السابق لدى ألمانيا، أفي بريمور، في مقال نشر في صحيفة المعاريف، إن الديمقراطية الغربية تتأثر بـ"التغييرات الحاصلة بسرعة للغاية في الحياة العصرية والاقتصاد الحديث، وهي العوامل التي أوصلت أيضًا دونالد ترامب للسلطة في الولايات المتحدة".

ولم يقلل من مخاوف الإسرائيليين، تصريح لألكسندر جولاند، قال فيه: "لا يوجد شيء في حزبنا وفي برنامجنا من شأنه أن يقلق اليهود المقيمين في ألمانيا بأي طريقة"، بل إن الصحفي الإسرائيلي نداف إيال، كتب في اليديعوت أحرونوت يؤكد أن ما وصفه بتحطيم اليمين المتطرف البازغ هو أهم أولويات ميركل، وقال: "إن تحدي ميركل الآن هائل، وأكبر من أية ولاية اخرى لها. هذه النتائج تلمح بولاية أخيرة لها، والآن ملقىً على عاتقها مهمة تاريخية: تحطيم اليمين المتطرف بينما هو لا يزال صغيرًا نسبيًّا وقابلاً للمعالجة، فألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية لا يمكنها أن تسمح لنفسها بالتسلي بكراهية الاجانب، وميركل تفهم هذا جيدًا".

ويبقى السؤال الأهم: إذا كانت ميركل تفهم هذا التحدي جيدًا كما قال إيال؛ فهل هي بالفعل قادرة على التعامل معه، أم تختتم حياتها السياسية بأسوأ ذكرى لألمانيا والعالم، وهو عودة النازيين إلى مقاعد السلطة في ألمانيا.. النازية سابقًا؟!..

ميركل، ألمانيا، حزب الخضر

الأخبار