اليقين
الأخبار

«البريكست» البريطاني وأموال الخليج.. لا عزاء لفقراء العرب!

البريكست
البريكست

حوالي 400 مليون دولار الاحتياجات الطارئة لهيئة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، في غزة.. 2.3 مليار دولار تطلبها الأمم المتحدة لمواجهة الاحتياجات الإنسانية في اليمن.. 120 مليون دولار تطلبها منظمة الهجرة الدولية لمساعدة لاجئي الروهينجيا..

كل هذه الأرقام مجتمعة، وغيرها مما يعني مصير وحياة وكرامة عشرات الملايين من البشر – أيًّا كانت انتماءاتهم الدينية أو القومية أو السياسية – لا تبلغ نصف حجم الاستثمارات التي ضختها دولة خليجية واحدة في قطاع العقارات البريطاني، دعمًا للاقتصاد البريطاني الذي يواجه تبعات الخروج من الاتحاد الأوروبي أو "البريكست".

في أبريل من العام 2017م الجاري؛ نشرت هيئة الإذاعة البريطانية تقريرًا مهمًّا حول الاستثمارات القطرية في بريطانيا. التقرير بدأ بالقول إن دول الخليج تُعدُّ من أبرز الوجهات الاستثمارية لبريطانيا خلال فترة ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولكن المحتوى أشار إلى أن تيارات التدفق الاستثماري عكس ما بدأه التقرير؛ حيث أكد أن بريطانيا تلقت الكثير من التدفقات الاستثمارية الخليجية، منذ العام 2015م.

التقرير ذكر أن قطر تُعتَبر من كبار المستثمرين العقاريين في العاصمة البريطانية لندن، من بين المستثمرين الآخرين في الشرق الأوسط؛ حيث زاد حجم استثمارات الدوحة، 30 مليار جينه استرليني.

الأهم في هذا التقرير، هو إشارته الواضحة إلى إعلان الشيخ عبد الله بن ناصر بن خليفة آل ثاني، رئيس وزراء قطر، خلال زيارته إلى بريطانيا في ذلك الحين، عن اعتزام بلاده استثمار 5 مليار جنيه إسترليني (حوالي 6.29 مليار دولار) خلال السنوات الخمس القادمة في بريطانيا، كدعم للاقتصاد البريطاني خلال السنوات التي سوف تتلو الخروج من الاتحاد الأوروبي.

التقارير الرسمية البريطانية تشير كذلك إلى أن عام 2015م وحده شهد ضخ المستثمرين الخليجيين لحوالي 3 مليارات دولار في بريطانيا.

وليس قطر فحسب التي تولِّي وجهها شطر لندن ودعم لندن في مأزق "البريكست" الذي وجدت رئيسة الحكومة البريطانية، تيريزا ماي، نفسها فيه.

فالإمارات نحت ذات النحو بعد أشهر قليلة من التوجه القطري، وكان أحدث حلقات صور الدعم الإماراتي للاقتصاد البريطاني، هو إعلان مجموعة أبوظبي المالية رسميًّا عن إطلاق مشروع "ذا برودواي" باستثمارات تصل إلى نحو 1.5 مليار جنيه استرليني (7.3 مليارات درهم) في منطقة "ويستمنستر" بالعاصمة البريطانية لندن.

وهناك في هذا الصدد تصريح لافت للرئيس التنفيذي في المجموعة، جاسم الصِّدِّيقي، لو تم وضعه في الاعتبار؛ سوف يكشف الكثير من جوانب الصورة؛ حيث قال إن العائد الاستثماري في دبي في الفترة الحالية يُعد أفضل من لندن، ولكن الاستثمار في لندن مجزٍ على المدى الطويل.

وبالتالي؛ فهو يخاطر بنحو سبعمائة مليون جنيه إسترليني حصلت عليها المجموعة من بنك أبوظبي الأول في مطلع العام الجاري كجزء من التمويل المطلوب، لأجل البدء مع مجموعة "نورث إيكر" البريطانية في هذا المشروع (سكني وتجاري)، من دون رؤية واضحة للمستقبل.

وهو ما لا يجهله الصِّدِّيقي؛ حيث إنه صرح في حينه ما يشير إلى وجود تحذيرات من جهات التقدير التي تتعامل معها المجموعة، وتؤكدها تقارير اقتصادية دولية، من أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سوف يكون له انعكاسات على الاقتصاد البريطاني، وخصوصًا قطاعَيْ الشركات والعقارات.

فهو يقول في تصريحاته الصحفية المشار إليها إنه يستبعد أن يؤثر "البريكست" على توجهات المجموعة في قطاع العقارات في لندن، وأن التقلبات موجودة في جميع الأسواق سواء أكانت سياسية أو اقتصادية.

وبشكل عام، تُقدَّر الاستثمارات الخليجية في بريطانيا، حكومية وخاصة، بأكثر من 120 مليار جنيه إسترليني، غالبيتها مستثمرة في العقارات والأسهم، أو كودائع بالجنيه الإسترليني.

ومن بين الأرقام اللافتة كذلك، أن الخليجيين ضخوا 2.72 مليار جنيه استرليني، لشراء فنادق فقط، في المملكة المتحدة، في العام 2016م، وخصوصًا بعد استفتاء "البريكست" الشهير.

وفي 2017م، بلغت حصة رؤوس الأموال الخليجية، ثلاثين بالمائة من مشتريات العقارات الكبرى في المملكة المتحدة، وتركزت في العاصمة لندن، وفي مدينتَيْ ليفربول ومانشيتسر، مع ميل إلى الشراء بغرض التأجير لا الاستعمال الشخصي.

إلا أن هذه الأرقام لا تعبر عن حقيقة الصورة بالكامل؛ حيث تشير دراسات إلى أن إجمالي الأموال التي تعود إلى صناديق الاستثمار الخليجية، والمتداولة في بريطانيا تصل إلى خمسة تريليونات دولار، ويشمل ذلك الأصول الثابتة والأموال المنقولة والأسهم والسندات، وغير ذلك.

يأتي ذلك "التطوير" الكبير في إقبال الخليجيين على ضخ كل هذه التمويلات في الاقتصاد البريطاني، وخصوصًا في القطاع العقاري، في وقت حذرت فيه مؤسسات التمويل الدولية ومكاتب الاستشارات الكبرى من أن المخاطر أعلى في الفترة الراهنة في الاستثمار في بريطانيا، في ظل عوامل الانكماش المتوقعة في مختلف قطاعات الاقتصاد البريطاني، وخصوصًا قطاع الوظائف.

وهو قطاع له أهميته؛ حيث إنه مرتبط بالقطاع الأهم الذي يستثمر فيه الخليجيون، وضخوا فيه في فترة ما بعد "البريكست" مليارات طائلة، وهو قطاع العقارات.

فتراجع قدرة الاقتصاد البريطاني على توليد الوظائف، وخروج نسبة معتبرة من الموظفين الأجانب من بريطانيا على خلفية "البريكست"، قاد إلى تراجع حاد في مستوى الإقبال والطلب على تأجير العقارات على وجه الخصوص.

وأخذ ذلك أكثر من مسار، أولها أن الانفصال عن الاتحاد الأوروبي أدى إلى انخفاض مستوى الأجور في المملكة المتحدة، مما قاد إلى زيادة معدلات البطالة بنسبة 4.7 بالمائة، وتوازى انخفاض الأجور مع ارتفاع التضخم، وزيادة أسعار المستهلكين بنسبة 2.3 بالمائة في مارس 2017م.

وبالتالي؛ يشهد السوق البريطاني ضغوطًا على إنفاق الأسر، التي تلجأ إلى التوفير من خلال البحث عن سكن أرخص، وبيع ما قد تكون تملكه بالفعل، أو سكن أقل في مستوى الإيجار، مع تقليل نفقاتها العامة، لاسيما مع ارتفاع متوسط أسعار الغذاء بنسبة سنوية قُدِّرت بحوالي 1.2 بالمائة.

وعلى مستوى قطاع الوظائف بشكل مباشر؛ فإن هناك تقديرات تشير إلى أن بريطانيا سوف تفقد أربعة ملايين فرصة عمل بسبب خروجها من الاتحاد الأوروبي، من بينها نصف مليون بريطاني يعملون بشكل رسمي في مؤسسات الاتحاد الأوروبي.

ويعود ذلك في جزء منه إلى تخطيط الكثير من المصارف والشركات للخروج من بريطانيا، لأنها سوف تفقد المزايا التي كانت تتمتع بها بريطانيا من كونها عضوًا في السوق الأوروبية الموحدة، وصاحبة أكبر قدر من الاستثمارات الأوروبية المباشرة التي لن تستمر في العمل في السوق البريطانية.

وفي هذا نشير إلى ما ذكره موقع الوظائف الشهير "Hired"، من أن أعداد المرشحين الأجانب الذى يقبلون عروضًا مبدئية من شركات موجودة في المملكة المتحدة، تراجعت بنسبة 50 بالمائة منذ تصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي، في يونيو 2016م.

كما أن تزايُد الضغوط على قطاع الشركات البريطاني مع فقدان بريطانيا لحرية دخول السلع والبضائع والخدمات البريطانية إلى السوق الأوروبية، التي تضم 500 مليون مستهلك، من دون تعريفة جمركية، سوف يقود إلى ضغوط مماثلة على قطاع الوظائف، مع تقليص الشركات البريطانية الحتمي لأنشطتها.

في المقابل؛ فإن الاتحاد الأوروبي لن يقدم أي مزايا لبريطانيا في مفاوضات الخروج، وإلا أعطى إشارة إيجابية لدول أخرى تريد الخروج، أو لقوى اقتصادية كبيرة خارج الاتحاد الأوروبي، مثل سويسرا والنرويج، تريد شروطًا أفضل للشراكة مع الأوروبيين.

وهذا ما سوف يجبر بريطانيا – إذا أرادت تفادي جزءًا من آثار الخروج – أن تتفاوض مع دول الاتحاد الأوروبي، فرادى، وكذلك مع القوى الاقتصادية الكبرى في العالم التي تعطي الاتحاد الأوروبي مزايا أكبر من غيره، ومنها كندا وكوريا الجنوبية.

وأثر ذلك على قطاع العقارات في بريطانيا ليس بمثابة تقديرات مستقبلية؛ وإنما بدأت تجد لها طريقًا بالفعل، ففي تقرير صادر عن شركة "نايت فرانك" المتخصصة في شؤون العقار، أن أسعار العقارات في منطقة وسط لندن، هبطت خلال عام واحد ما بين 3.5 بالمائة إلى 7.5 بالمائة، بسبب مباشر هو المخاوف من تأثيرات الخروج من الاتحاد الأوروبي.

وبالتالي؛ فإن هذه التراجعات مرشحة للارتفاع بعد الخروج الفعلي، والذي من المخطط أن ينتهي بحلول العام 2019/2020م، بصورة نهائية.

بل إن هناك تقديرات تشير إلى أن القطاع العقاري في ظل هكذا أوضاع في قطاع الوظائف ومؤشرات أسعار المستهلكين، وخصوصًا في سوق الأغذية قد ينهار، أو على الأقل يتراجع بصورة حادة.

وذكر التقرير، أن مناطق مثل "نايتسبريدج"، و"ساوث كينزينجتون"، و"تشيلسي"، في وسط لندن هي الأكثر تأثرًا، لأنها المناطق الأكثر ارتفاعًا في مستوى الأسعار والإيجارات، فيما هي الوجهات الأكثر جاذبية للمستثمرين الخليجيين، بل إن هناك تقديرات تشير إلى أنها تكاد تكون أحياء خليجية بسبب كثرة مَن يترددون عليها من البلدان الخليجية.

ولن يقف الأمر عند مستوى قطاع العقارات التقليدي، بل سوف يمتد إلى الفنادق الخمس نجوم التي توظف فيها دول الخليج مئات المليارات من الجنيهات الإسترلينية كما تقدم.

فعندما تفقد لندن واقعها كمركز مالي لأوروبا، لصالح مدن أوروبية أخرى مثل فرانكفورت، التي توجد فيها واحدة من أكبر البورصات العالمية، ومقر البنك المركزي الأوروبي؛ سوف تنخفض حركة الطيران من وإلى بريطانيا، وهو ما سوف يؤثر على قطاع السياحة، وبالتالي قطاع الفنادق.

التوظيف السياسي للمال الخليجي

تكشف الصورة السابقة عن أن التمويلات الخليجية في بريطانيا في ظل هكذا ظروف واضحة للعيان؛ إنما هي تمويلات ذات طابع سياسي. أي توظيف سياسي لأموال النفط، لا يقف عند حدود بريطانيا؛ حيث يمتد إلى اقتصادات دول أخرى، مثل الولايات المتحدة، من أجل كسب ودها، في إطار الصراعات الإقليمية التي تنخرط فيها الحكومات الخليجية، وحماية لنفوذها، إذا ما أدت ضغوط الرأي العام في هذه الدول على حكوماتها، إلى تأثيرات سلبية على مواقفها من العواصم الخليجية بسبب انتهاكات حقوق الإنسان التي تقوم بها هذه الأخيرة.

ويرى الكثير من المراقبين أن هذه السياسة فعالة برغم عدم اتفاقهم معها، أو مع سياسات الدول الخليجية بشكل عام.

فمليارات السعودية في الأسهم السيادية الأمريكية، وفي العقارات وسوق المال البريطاني، والمليارات التي تذهب إلى شركات السلاح الأمريكية والبريطانية، هي التي حمت الرياض من قرارات ضدية بسبب الحرب في اليمن.

ففي بريطانيا بالذات، تتزايد انتقادات الرأي العام والإعلام للحكومة بسبب استمرارها في تزويد الرياض بالسلاح، ودعت الكثير من الدوائر النافذة في لندن، إلى وقف صادرات السلاح إلى السعودية بسبب تجاوز الزبون السعودي لاشتراطات استخدام السلاح البريطاني في قتل المدنيين في اليمن.

الحكومة البريطانية على لسان تيريزا ماي ردت بشكل واضح على إحدى هذه الحملات في العام الماضي، وقالت إن ذلك من شأنه زعزعة المصالح البريطانية في وقت حرج في ظل ظروف "البريكست".

وفي حقيقة الأمر؛ فإن التوظيف السياسي للمال الخليجي ليس بغريب على الحكومات في المنطقة.

فلقد عرفت الفترة التي تلت الفوضى التي ضربت عالمنا العربي بأطنابها منذ نهايات العام 2010م، وحتى الآن، فيما عرف بـ"الربيع العربي"، الكثير من الظواهر السياسية، من بين أهمها كان مسألة التوظيف السياسي للأموال الخليجية في التلاعب بالأوضاع الداخلية، السياسية والأمنية والاجتماعية للكثير من الدول العربية التي شهدت مثل هذه النوعية من الحراك.

ولعل سوريا أبرز نموذج على ذلك، بل إن مصر عرفت ذلك في الفترة التي تلت انتفاضة يناير 2011م، التي أطاحت بالرئيس الأسبق، حسني مبارك.

فلا يمكن أن تدعي الرياض أن علاقاتها الجيدة الحالية مع القاهرة، وفاءً للشعب المصري وظروفه؛ فالسعودية كانت أحد الدول التي شاركت مع الإمارات في محاصرة مصر اقتصاديًّا في فترة تولي الرئيس الإخواني، محمد مرسي للرئاسة في الفترة بين عامَيْ 2012م و2013م، وعانى الاقتصاد المصري كثيرًا لهذا السبب مما أدى إلى انخفاض الاحتياطي النقدي المصري إلى مستوى بات معه لا يكفي للواردات من السلع الإستراتيجية، لشهرَيْن أو ثلاثة أشهر.

وكان الباعث أو المحرك الرئيسي لهذا السلوك من جانب دول الخليج، هو تأمين الأنظمة الحاكمة من امتداد هذه الهبات الشعبية إليها، وزعزعة عروشها، أو تصفية خصومات مع أنظمة أخرى، مثلما يحدث مع نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، بسبب تحالفه مع إيران.

وفي مقابل كل هذه المئات من المليارات؛ مليارات النفط الخليجي – التي هي في الأصل من حق الشعوب وليس الأنظمة، باعتبار أن الشعوب هي صاحبة الحق الأصيل في التصرف في ثرواتها – والتي يتم إنفاقها في بيئة اقتصادية عالية المخاطر؛ فإن هناك دولاً عربية بحاجة إلى ما لا يزيد على واحد بالمائة من هذه التدفقات النقدية الخليجية لإنقاذ الملايين من الأفواه الجائعة والأعراض التي تعرَّت لكي تجد لقمة العيش؛ فلا تجد أي شيء، ولا عزاء لفقراء العرب!

الأخبار