هزائم عسكرية وتصفيات ميدانية.. ماذا جنى الحوثيون من انقلابهم الثاني؟!
تحليل: أحمد التلاوي اليقينتواترت الكثير من التقارير الإخبارية، وكذلك السياسية التي تشير إلى حالة من التراجع غير المُنظَّم، نتيجة هزائم ميدانية كبيرة لحقت بها على الأرض؛ تُعاني منها ميليشيات الحوثيين في اليمن، قادت إلى طرح الكثير من الأسئلة حول الواقع الراهن لهم، ومستقبل الأوضاع في اليمن بشكل عام.
ولكن قبل مناقشة حقيقة المشهد على الأرض، وكيف تسير الأمور؛ فإنه ينبغي توضيح نقطة شديدة الأهمية هناك فيها الكثير من الارتباك في تناول الإعلام العربي والدولي لها، وهي تلك المتعلقة بنقطة "تحولات" الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح في الفترة الأخيرة قبل اغتياله أو استشهاده على أيدي "حلفائه" السابقين.
ففي حقيقة الأمر؛ فإن ما جرى من انفصام العُرَى بين المؤتمر الشعبي العام بقيادة صالح، وبين الحوثيين؛ إنما ينبغي إسناده إلى الطرف الحقيقي الذي يقف خلفه، وهو الحوثيون ذاتهم.
وتكشف التفاصيل الكامنة خلف هذا الأمر، عن الكثير من الأمور التي توضح أن تنحية الحوثيين كقوة سياسية عن الساحة، هو أهم الأولويات المطلوبة لتحقيق استقرار اليمن، واستعادة الدولة، واستعادة وحدة أراضيه.
الانقلاب الحوثي على المؤتمر.. خلفيات وأسباب
ما جرى من المؤتمر، ومن قياداته بدأ يظهر إلى العلن عند وضوح سعي الحوثيين إلى الانفراد بالساحة اليمنية بالكامل، وعدم رغبتهم في إنهاء الأزمة بالشكل الذي يحافظ على وحدة اليمن، وأنهم اكتفوا بما قد حققوه من سيطرة على الأرض، وأن ذلك كان هدفهم الأصلي من الانقلاب الأول الذي قاموا به في سبتمبر 2014م، عندما سيطروا على صنعاء ومؤسسات الدولة فيها، ومدن يمنية أخرى كبرى.
وهي نقطة شديدة الخطورة تفسِّر الكثير من تطورات الأحداث التي تلت أزمة سبتمبر 2014م؛ حيث إن الحوثيين لا يحملون مشروعًا وطنيًّا يمنيًّا، وإنما هو مشروع "ميليشياوي" يصب في مصلحة مخططات إيران، التي لا تريد السيطرة على اليمن بقدر ما تريد موطئ قدم لعوانها هناك، وهم الحوثيون، على أية رقعة من الأرض، شريطة أن تكون رقعة الأرض هذه ذات طابع إستراتيجي.
لذلك كان التمسك بصنعاء وبمناطق أخرى ذات طبيعة إستراتيجية، تركزت بالكامل في الشمال لاعتبارات تتعلق بجزء من المخطط الأصلي، وهو تطويق المملكة العربية السعودية، وتهديد حدودها الجنوبية، وهو ما فرض – مع عوامل أخرى تتعلق بباقي أطراف الأزمة الإقليميين – انفصالاً أو تقسيمًا فعليًّا لليمن على الأرض.
وتشمل كذلك هذه المناطق الإستراتيجية، المرافق الرئيسية لليمن، بما في ذلك المطارات والموانش والطرق؛ حيث وحولوا هذه المرافق إلى مصدر دخل مالي لهم؛ حيث تشير تقديرات عدة إلى أن أكثر من خمسة مليارات دولار جناها الحوثيون من الجباية على الحركة ومرور الأفراد والبضائع وإعادة بيعها وغير ذلك من خلال سيطرتهم هذه.
وعندما تكشفت هذه الحقيقة، من خلال المواقف الحوثية المتتابعة في مفاوضات الكويت، وفي غيرها من المواقف، وفي التعنت الذي أبدته الميليشيات تجاه مختلف المبادرات التي قامت الأمم المتحدة بطرحها، من خلال الوسيط الأممي، الدبلوماسي الموريتاني، إسماعيل ولد الشيخ أحمد؛ عندما تكشف ذلك؛ بدأت الأزمات في الظهور بين الشركاء السابقين في صنعاء.
وظهر الطابع الإقصائي للحوثيين، ورغبتهم في الانفراد بالأمور، على طبيعتها جلية، في الأزمة التي سبقت الاحتفالية السنوية التي نظمها المؤتمر في الذكرى الخامسة والثلاثين لتأسيسه؛ حيث حاول الحوثيون عرقلة تنظيم الاحتفال في ساحة السبعين؛ لأن ذلك كان من شأنه إظهار القوة الحقيقية للمؤتمر.
وبالتالي؛ فإن ما قام به صالح في الأيام الأخيرة قبل مقتله؛ إنما كان لاحتواء الانقلاب الثاني، أو الخطوة الرئيسية الثانية في انقلاب الحوثيين ومخططاتهم الرئيسية في اليمن.
ولكن، ووفق أي تقييم موضوعي؛ فإن الأمر يبدو وكأنه مقامرة خاسرة؛ حيث لم يجنِ الحوثيون أية مكاسب منذ انقلابهم على المؤتمر وقيادته التاريخية ممثلة في الرئيس اليمني علي عبد الله صالح.
ويعود ذلك إلى عاملَيْن رئيسيَّيْن أساءت قيادات الحوثيين ومن خلفهم في عاصمة الداعم الرئيسي لهم؛ إيران.
العامل الأول؛ هو أن المؤتمر الشعبي كان عامل الإسناد الرئيسي والوحيد لهم على المستوى الشعبي والميداني، بل إنه يمكن القول بمنتهى الموضوعية؛ إن الحرس الجمهوري والقوة الجماهيرية للمؤتمر كانت هي القسم الأكبر من قوة الحوثيين الظاهرة أمام خصومهم في داخل وخارج اليمن، وهناك أدلة تثبت ذلك، سوف يتم عرضها في موضع تالٍ.
العامل الثاني؛ هو أن الحوثيين كحالة لميليشيا مسلحة تدعمها إيران؛ تختلف في واقعها الجيوسياسي عن "حزب الله" اللبناني على سبيل المثال، أو تلك الموجودة في العراق.
وهذا الاختلاف يمكن أن يكون هو عامل حسم للأزمة اليمنية لصالح استعادة الدولة، وهو عدم وجود اتصال جغرافي/ جيوسياسي بين الحدود الإيرانية وبين اليمن، خلافًا للحالة السورية والعراقية واللبنانية؛ حيث الحدود البرية لما يعرف حاليًا في الأدبيات السياسية والإعلامية العربية والدولية بـ"الهلال الشيعي"؛ تسمح بمختلف ألوان الإسناد، سواء بالسلاح أو المقاتلين أو الخبراء.
وهو أمرٌ غير متوافر بنفس الكفاءة في اليمن، فبالرغم من وجود تقارير عدة تكشف عن وجود خبراء ومدربين إيرانيين ولبنانيين من "حزب الله"، إلا أن وجود عوائق جيوسياسية من نوع المسافة، ووجود المملكة العربية السعودية وحلفائها على طول خطوط الإمداد، بالإضافة إلى طول المسافة، مما يسمح بمراقبتها بعناية أكبر؛ تقول بأنه من الصعوبة بمكان صمود الحوثيين مثلما حدث في حالة "حزب الله" في لبنان، أو "الحشد الشعبي" في العراق.
ويتضح ذلك من خلال مراقبة تطورات الأحداث الميدانية في مرحلة ما بعد صالح.
فهناك محافظات ومناطق كاملة طارت من قبضة الحوثيين، مثل شبوة والبيضاء، بالإضافة إلى نهم التي في طريقها إلى ذلك.
يضاف إلى هذا، أن "الاستعجال" في إعلان الحوثيين لحقيقة نواياهم، ووجههم الأصلي، قبل أن يتمكنوا اجتماعيًّا وسياسيًّا، وقبل اكتساب احترافية الأزمات، كما حصل في حالة "حزب الله" مثلاً؛ قاد إلى تحول خسائرهم في العناصر والقيادات – كان آخرهم ياسر فيصل الأحمر، و30 آخرين، بغارة للتحالف العربي الذي تقوده الرياض، مساء يوم الثلاثاء، 26 ديسمبر.
هذا النزيف في القيادات يثبت أن الحوثيين لم يتشربوا بعد كامل هيئة المنظمات المماثلة التي تدعمها إيران في المنطقة، وأن انقلابهم على صالح والمؤتمر كان مبكرًا للغاية، وكانت الكارثة سوف تكون مضاعَفة لو أن الحرس الجمهوري الذي كان يقوده تلسفير أحمد علي صالح، كان على ذات الدرجة من القوة والتماسك قبل إجراءات الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي في حقه خلال الفترة بين 2012م و2014م، والقبائل المحيطة بصنعاء، قد أوفت بالتزاماتها مع حزب المؤتمر، وترتيبات تأمين العاصمة.
وفي هذا الإطار؛ يجب القول إن هادي في هيكلته أوتصفيته للحرس الجمهوري كقوة ضاربة، تعاون بشكل وثيق مع الحوثيين، وكانت عملية إعادة هيكلة الحرس الوطني، وضمه إلى الجيش اليمني الذي يأتمر بإمرة هادي، تتم بحضور قيادات الحوثيين التي يحاربها هادي وتحارب هادي الآن.
كما أن انكشاف الحوثيين كقوة لا ظهير اجتماعي لها؛ يبدو واضحًا؛ حيث إنه لولا سياسات الترهيب التي تتبعها تجاه القبائل المحيطة في صنعاء، وفي شمال اليمن بشكل عام – هناك تقارير عن 19 ألف قيادي وعنصر قبلي وسياسيين وحزبيين اعتقلهم الحوثيون في الأشهر الأخيرة فقط، بجانب من تمت تصفيتهم من قيادات "المؤتمر"، وهؤلاء في صنعاء فقط، يصل عددهم إلى 2500 -؛ لولا ذلك الأسلوب الأمني البحت؛ ما صمدوا إلى الآن أو بقوا في مراكزهم السياسية المهمة، ولعادوا عصابات مشتتة في مناطقهم القديمة في صعدة وعمران.
وبكل تأكيد؛ فإن هذه المدركات بدأت تصل إلى قيادات الحوثيين، وإلى داعميهم في أكثر من عاصمة إقليمية، سواء طهران أو مسقط أو الدوحة، مع استمرار فقدانهم للأرض والسيطرة على عناصرهم؛ حيث ألقى الآلاف منهم السلاح، وتساقط قياداتهم قتلى.
بالتالي؛ فإن واجب الوقت حاليًا؛ هو ضرورة تجميع مختلف القوى الموجودة والفاعلة على الأرض في اليمن، وتحشيد القيادات السياسية والعسكرية والقبلية في الداخل والخارج، من أجل توجيه ضربة حاسمة لهم، تفقدهم توازنهم على الأقل؛ إن لم تقضِ عليهم، وتجبرهم إما على التسليم أو قبول التفاوض، ولو أنه من الواضح أنه لم يعد أحدٌ معنيٌّ بالتفاوض معهم لا في الداخل ولا في الخارج.
وهي كارثة كبرى جنوها كذلك من انقلابهم الثاني على المؤتمر ومختلف حلفائهم؛ حيث إنه، بعد استشهاد الرئيس صالح، جعلت جميع الأطراف في اليمن وخارجها، تخرج للمطالبة برقاب قادة الحوثيين، ولم يعد خيار التفاوض السياسي معهم مطروحًا من الأصل.
والمدهش أن الغباء السياسي وصل بالحوثيين إلى درجة أنهم بقتلهم لصالح، رفعوا عن أنفسهم أهم صفة كانت تمنع إبادتهم، على الأقل على مستوى القيادات وعناصرهم المسلحة على الأرض؛ حيث كان المؤتمر هو واجِهتهم السياسية وإسنادهم الاجتماعي، وبتخلي المؤتمر عنهم؛ فقدوا صفتهم كـ"قوة سياسية" على خريطة القوى السياسية والاجتماعية اليمنية، لصالح صفة "ميليشيا إجرامية مسلحة".
ولم تعُد تتميز في هذا الصدد في أي شيء عن تنظيمات إرهابية إجرامية أخرى، مثل "القاعدة" وتنظيم الدولة "داعش".
مبادرة ميليباند والنفاق الدولي
تطرح هذه النقاط علامات استفهام كبيرة على المحتوى الذي تضمنه المقال الذي نشره رئيس لجنة الإنقاذ الدولية، الدبلوماسي البريطاني السابق ديفيد ميليباند، في صحيفة الـ"واشنطن بوست" الأمريكية، الذي قدمه تحت عنوان كبير، وهو "معالجة المعاناة الإنسانية في اليمن".
فالخطة تتضمن التفاوض مع الحوثيين، من أجل فتح الموانئ والطرق وكذا، من أجل إيصال المساعدات إلى اليمنيين في مختلف أنحاء اليمن، بينما الحوثيون غير معنيين من الأصل بذلك، وكما تقدَّم؛ فإنهم يجنون المليارات من وراء سيطرتهم على الطرق والموانئ والمطارات اليمنية.
ومن خلال ما تقدَّم كله؛ فإن الحوثيين من الأصل لم يثبتوا أنهم قوة سياسية يمكن التفاوض معها، بل هم ميليشيا مسلحة منظمة سياسيًّا، وتلعب دور "مخلب القط" أو "مخلب الشيطان" لصالح عواصم إقليمية، وخصوصًا الدوحة وطهران كما أثبتت الحوادث.
وبالتالي؛ فإنه تحت هذا العنوان العريض الجذَّاب الذي يتمناه أي إنسان؛ إفساح المجال أمام أعمال إغاثة اليمنيين؛ يقدم ميليباند – كعادة سياسة بلاده – طوق نجاة للحوثيين، يستمرون به على قيد الحياة، لمجرد إبقاء عوامل الأزمة وبذورها حية في اليمن.
وهو سياسة بريطانية معروفة؛ الإبقاء على جذور الأزمات في دول العالم الثالث، وخصوصًا في مناطق نفوذ الاستعمار البريطاني السابق، في العالم العربي والإسلامي، من أجل إضعافها.
وتشمل هذه السياسة البريطانية رعاية مختلف أشكال المعارضة، حتى ولو كانت أحزابًا وحركات إرهابية أو تدعم الأفكار المتطرفة، مثل "الإخوان المسلمون"، كما يبدو في رعايتها لحكومات إقليمية متورطة في أعمال إرهابية، مثل الحكومة القطرية ونظام الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان.
وهنا تجب الإشارة إلى حقيقة شديدة الأهمية لتفسير "مبادرة" ميليباند التي تمنح عصابات الحوثيين قبلة الحياة، بينما هما على وشك الهزيمة، إلى أن الجمهوريين في اليمن، والوحدويون هم ورثتهم الشرعيون، وعلى رأسهم صالح؛ كانوا هم أهم الأطراف التي تضامنت مع السياسات التي تبناها الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، والقوميين العرب بشكل عام، في الخمسينيات والستينيات لطرد الاستعمار وتصفية آخر معاقله في الشرق الأوسط بالكامل.
وبالتالي؛ يمكن فهم بواعث ميليباند من طرحه لهذه المبادرة، ويزداد فهمنا هذا إذا ما طالعنا خلفياته؛ حيث هو يهودي من أصول بولندية، ومن أكبر المؤيدين للحركة الصهيونية، وكان وزيرًا للخارجية البريطانية في الفترة ما بين 28 يونيو 2007م، وحتى 11 مايو 2010م، وشقيق إد ميليباند رئيس حزب العمال البريطاني السابق، وكلها خلفيات لا تقول إلا بأن هناك مخططًا ما لاستمرار الأزمة اليمنية وإطالة أمدها.
وفي الأخير؛ يبقى التأكيد على ضرورة وأهمية حسم المعركة مع الحوثيين قبل استيعابهم الآثار الكارثية التي ترتبت عليهم بسبب انقلابهم الثاني وجرائمهم الأخيرة، ووضعهم في سياقهم الطبيعي؛ كعصابات مسلحة متمردة لا أكثر، وعدم الالتفات إلى أية مبادرات لتسوية الأزمة تشمل دمجهم في أي تشكيل سياسي للدولة في اليمن؛ حيث هم ليسوا مالكي أمرهم لكي يعملوا كقوة سياسية يمنية خالصة!