اليقين
المقالات

الفائقة

اليقين

بقلم د. ريم عبدالغني زوجة الرئيس الأسبق علي ناصر

.......

محمد إذا كنتَ تعتقد أنّ نساء مصر وبلاد الشام هنّ الأكثر تحرراً وقوّة بين نساء العرب، فهذا لأنّك لم تعرف بعض نساء اليمن. أنا عرفتُ منهنّ الكثيرات. بعضهنّ كنّ باحثات نشيطات، كالدكتورة رؤوفة حسن، وبعضهنّ كنّ سفيرات، كأمة العليم السوسوة، وبعضهنّ وزيرات، كوهيبة فارع، وبعضهن قاضيات، كحميدة زكريا، وبعضهن محاميات، كراقية حميدان، وبعضهن ناشطات، كفوزية جعفر ، وبعضهنّ مخرجات، كخديجة الإرياني، وبعضهنّ قرويات بصلابة الرجال، كشيخة أخت زوجي. لكن هناك امرأة يمنية جبّارة عرفتُها، تحمل بعضاً منهنّ كلهنّ، هي فايقة السيّد باعلوي. خريجة كلية الإعلام والعلوم السياسية في الجزائر، والأهم أنّها خريجة مسيرة حياة نضال وكفاح طويلة.. قد يختلف البعض بشأنها، لكنّ الجميع يحترمونها، فقد عاشت حياتها في خدمة اليمن وأهله، قوية وصادقة في ما تؤمن به، لا تجامل في مواقفها، مخلصة لها ولأصدقائها.. •••••••• هي عالم كامل متفرّد لها حضور لا يدركه زمن. تجيد فايقة إيصال ما تريده بأسلوب طريف لا يخلو من خفّة ظلها وسلاطة لسانها المعروفتين. وخلف زوبعة التمرد وغبار المشاكَسات، تتحرك بدبلوماسية، وبذكاء فائق وسرعة بديهة. تبرع في محو الحواجز وخلقها وقت اللزوم. تنشر حولها جوّاً مريحاً من أجواء تعاون معسكرات الخدمة الاجتماعية. تُحيي المكان كله، ما إن تدخل بعاصفة من الأصوات والملاحظات والضحكات والطرائف. تلاحظ كل صغيرة وكبيرة، وتحاور كلّ شخص بما يهمه. لا يمكن أحداً أن يُفلت من رادارها الخارق.. ••••••••• وراء صوتها العالي، حتّى حين تهمس، وعباراتها اللاذعة، قلب فيّاض بالإنسانية، والتماع بريق دمع تمسكه حين تخاطب قلبها. فالـ"سيدة" حملت الكثير من أصولها الحضرمية: الوفاء والصدق والطيبة والمحبة والكبرياء مع التواضع.. هاتفها دائماً يبدأ بعبارة "يا بنت، يا قبائل اللاذقية"، وينتهي باسم مريض أو طالب. لا أذكر لها طلباً شخصيّاً. ما لديها، لمن يحتاجه. تنفق ما يصل إليها على الآخرين، ويتغضّن وجهها بألم وهي تذكر محتاجاً أو مريضاً. لذا، لا تتردد في طلب، وتخرج من باب أيّ مسؤول، رافعة الرأس كما دخلته. يلتفّ حولها دائماً شباب متحمسون، تهتمّ بشؤونهم، وتصوّب مسيرتهم، وترعاهم، فـ"العيال" - كما تدعوهم - كلهم أولادها. •••••••• وفايقة دائماً على الجبهة، حتى في أكثر لحظات حياتها استرخاءً. جاهزة للقفز إلى أي طائرة مسافرة إلى المواجهة. قوميّة بامتياز. قاتلت طويلاً مع الفلسطينيين، وكانت صديقة الزعيم أبو عمار. تحمل في قلبها وعلى صدرها أيقونة صورتها معه، وصورتها مع الرئيس علي عبد الله صالح، فقد كانت أيضاً صديقته. وهي صديقة الرئيس علي ناصر محمد، وعباس زكي والعديد من القادة غيرهم. لذا، ففايقة حالة تواصل عجيبة بين الزعامات والصحفيين والثائرين والمحتاجين والمناضلين القدامى ونساء البيوت وشباب الميادين ومختلف فئات المجتمع على امتداد الوطن العربي. •••••• عرفتُها في مواقف كثيرة. رافقتني في رحلة أبحاثي لنيل الدكتوراه في الحفاظ على عمارة وادي حضرموت الطينية وتوثيقها. أذكرها تدير الدنيا من خلال الهاتف. ترسل الطعام، وتنظّم حركة الفريق، وترسل وتأتي بالفنيين بين صنعاء وحضرموت، وتصرخ على المتأخرين، وتشتم موظفي الفندق لخلل في الطعام، و... لكن كل ذلك بأسلوب مرح ينعكس ابتسامات حب على وجوه من تقع على رؤوسهم لعناتها الظريفة. رفضت طاقم الحماية يومها، واعتبرت وجودها معي يكافئ الـ ٢٠ حارساً الذين أرسلتهم الدولة لحمايتنا، وكان ذلك حقاً، فمن يجرؤ على الاقتراب من محميّة لفايقة أو "أكينو"، كما يلقبها أبو جمال تيمّناً بزعيمة الفيليبين؟ ويوم قررتُ إقامة معرض للتراث اليمني في دمشق، دخلتْ فايقة مطار صنعاء مع ٩٠٠ كيلو من المشغولات اليمنية من سوق الملح. ورغم الاعتراضات والقوانين، لم تدع الطائرة تقلع إلى دمشق إلا وقد حملت الأشياء معها. فليس هناك ما يستعصي عليها. ••••••••• فايقة هي الممثل الشرعي للإنسان اليمني. لا أقول نساءً أو رجالاً، فهي أرقى من ذلك التصنيف. عالجت ودرّست وقاتلت وساعدت.. تحارب لأجل اليمن كفارس شجاع في المؤتمرات والمفاوضات في كل العواصم، وتحارب دائماً لأجل أصدقائها. خارج السلطة وقفت بوفاء مع الرئيس علي ناصر. وبعد مقتل الرئيس علي عبد الله صالح، قاتلت بوفاء لحماية أسرته، حين غاب الرجال. موجودة حين يختفي المراؤون، لأن الصفوف الأولى لا تهمّها، ولا المناصب. فهي لا تزيد من قوتها أو محبة الناس لها. •••••••• مرّت عشرون سنة على معرفتي بها، وفي السراء والضراء.. لم تتغير فايقة.. لم تكسرها المحن، ولا فقدان الأصدقاء والأحباب. فهي كما تعبّر: "ليست ممن يغيّرون تاريخهم في ربع الساعة الأخير". لم تتغيّر. حتى شكلاً.. بقيت فايقة، بشعرها القصير و"شملتها" الفلسطينية ولب اسها التقليدي وأحذيتها العملية المنخفضة، ولم يزد إلا عصاها التي تستخدمها لكل شيء ما عدا السير. فايقة مزيج نادر.. فايقة - بتعبير لم أسمعه إلا منها - "حبّة وحرق المصنع". •••••• شرح: حبة وحرق المصنع: أي لم يصنع منها إلا نموذج وحيد لأن المصنع احترق بعدها.

المقالات

آخر الأخبار